العَذرَاء في عَقيدَة الكنِيسة - منتدى ام السمائيين و الارضيين
الرئيسية التسجيل مكتبي
Image
البحث الأعضاء الرسائل الخاصة


منتدى ام السمائيين والارضيين


   
العودة   منتدى ام السمائيين و الارضيين > والدة الاله > موضوعات مختلفه ونادرة عن العذراء
 
موضوعات مختلفه ونادرة عن العذراء موضوعات شبه تنفرد بها منتديات ام السمائيين والارضيين عن والده الاله

 
   
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 08-12-2013, 02:13 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
 
6014 العَذرَاء في عَقيدَة الكنِيسة






مَريَم العَذرَاء في عَقيدَة الكنِيسة



1- مريم العذراء في الفكر اللاّهوتي في القرنين الأوّل والثاني


ركّز الآباء في القرنين الأوّل والثاني على دور مريم العذراء في قصد الله من خلال الكتاب المقدّس وفي مقارنة أقاموها بين حوّاء ومريم العذراء.

أ): إغناطيوس الأنطاكي (+ 107؟)


يذكر إغناطيوس الأنطاكي مريم العذراء عدّة مرّات في رسائله السبع إلى الكنائس، ويؤكّد بتوليّتها وأمومتها الإلهيّة. فيقول في رسالته إلى الأفسسيين: "واحد هو طبيبنا، مخلوق وغير مخلوق، جسد وروح، إله في الإنسان، وحياة حقيقية في الموت، مولود من مريم ومولود من الله" (رقم 7). ثمّ يتكلّم على أسرار ثلاثة لم يعرفها الشيطان، فيقول: "لم يدرك سلطان هذا العالم بتوليّة مريم ولا أمومتها ولا موت الربّ. هذه الأسرار التي تمّت في صمت الله" (رقم 19).

ب) القدّيس يوستينوس (+ 165)


يعود القدّيس يوستينوس مرارًا إلى نبوءة عمّانوئيل (أش 7: 14)، ويرى فيها تبشيرًا بالخلاص. كما يذكر مرارًا وعد الله لحوّاء بأنّ نسلها سيسحق رأس الحيّة. ويرى تحقيق هذا الوعد في مريم العذراء وفي ابنها يسوع المسيح. يقول: "رضي ابن الله أن يصير إنسانًا وأن يولد من عذراء من نسل داود، لكي يقتل الحيّة وينتصر على الموت". ويقارن بين حوّاء ومريم، فيوضح أنّه كما أخطأت حوّاء المرأة الأولى وعصت الله بملء حرّيتها، كذلك أصغت مريم العذراء إلى قول الله وأطاعته بملء حرّيتها. وكما أنّه بعذراء دخلت المعصية ودخل الموت إلى العالم، كذلك بعذراء حصل العالم على البرّ وعلى الحياة.
"لقد صار المسيح إنسانًا بواسطة عذراء، وذلك حتى إنّ المعصية التي نتجت من الحيّة تجد لها حلاًّ بالطريقة عينها. فإنّ حوّاء كانت عذراء ولم تُمسَّ بعد بكارتها، عندما قبلت في حشاها الكلمة التي أتتها من الحيّة، فولدت المعصية والموت. أمّا مريم قد حملت الإيمان والفرح، عندما بشّرها الملاك بأنّ روح الربّ سيحلّ عليها وقدرة العلي ستظلّلها، بحيث إنّ المولود منها هو قدّوس وابن الله (لو 1: 35)، وأجابت: "ليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38). وبواسطتها ولد من أشرنا إليه أنّه هو الذي سيسحق به الله الحيّة والملائكة والبشر الذين على مثال الحيّة".
فالمقارنة واضحة: المرأة الأولى أخطأت بحرّيتها، والمعركة ضدّ الحيّة يجب أن تكون حرّة. فمن يمكنه أن يأخذ حرّية حوّاء ويردّها إلى الله؟ هذا ما فعلته مريم. الهلاك أتانا عن يد عذراء قبلت بملء حرّيتها قول الحيّة، والخلاص جاءنا عن يد عذراء قبلت بملء حرّيتها قول الله. ومعصية حوّاء أزالتها طاعة مريم. حوّاء ولدت الموت ومريم ولدت الحياة. والله، قبل أن يولد منها كلمته وابنه الأزلي، طلب قبولها. وهكذا دخلت مريم العذراء في سرّ ابنها الخلاصي.


ج) القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+ 202؟)


يرى إيريناوس أنّ الخلاص يقوم علي العودة إلى بدء الكون لتحقيق قصد الله في الإنسان، ذاك القصد الذي لم يتحقّق بسبب خطيئة آدم وحوّاء. وتتمّ تلك العودة إلى الجذور بإعادة تكوين الأدوار التي أفسدت قصد الله. فالمسيح يحلّ محلّ آدم، والصليب ينتصب عوضاً عن شجرة السقطة، ومريم تقوم من جديد بالدور الذي لم تستطع حوّاء القيام به.
المسيح آدم الجديد
ينطلق إيريناوس من قول بولس الرسول إنّ المسيح هو آدم الجديد وإنّه يجمع في شخصه البشريّة كلّها. ويتوسّع في قوله: "فلئن كان الموت، بزلّة واحد، قد ملك بهذا الواحد، فكم بالأحرى الذين ينالون وفور النعمة وموهبة البرّ سيملكون في الحياة بواحد هو يسوع المسيح" (رو 5: 17). ويقول:
"كما أنّه بهزيمة رجل هبط جنسنا إلى الموت، كذلك بانتصار رجل صعدنا إلى الحياة، وكما تغلّب الموت علينا برجل، كذلك انتصرنا نحن على الموت برجل... فالمسيح يجمع في شخصه كلّ شيء، ما في السماء وما على الأرض. إنّه يوحّد بين الإنسان والروح، ويضع الروح في الإنسان. وهكذا يقود الحرب على عدوّنا، فيقهر ذاك الذي منذ البدء جعلنا أسرى بآدم، إذ يسحق رأسه. إنّ الذي ولد من عذراء، كما ولد آدم من أرض عذراء، أشارت إليه منذ البدء نبوءة تقول إنّه سيسحق رأس الحيّة. هذا هو النسل الذي يتكلّم عنه بولس في رسالته إلى الغلاطيين (غلا 4: 4) وعنه يقول المزمور التسعون: "سوف يدوس الأسد والتنّين"، ويقول سفر الرؤيا: "سيقيّد التنّين، الحيّة القديمة" (رؤ 20: 2).

مريم العذراء حوّاء الجديدة
ثمّ يوضح القدّيس إيريناوس دور مريم العذراء في هذا الخلق الجديد:
"كما أنّ يد الله خلقت آدم من أرض عذراء، كذلك لمّا جمع كلمة الله الإنسان في شخصه، ولد من مريم العذراء. وهكذا إلى جانب حوّاء، ولكن على خلافها، قامت مريم بدور في عمل الجمع هذا الذي هو عمل خلاص الإنسان، لمّا حبلت بالمسيح. حوّاء أغواها الشرّ وعصت الله. أمّا مريم فاستسلمت لطاعة الله وصارت المحامية عن حوّاء العذراء. إنّ حوّاء، وهي بعد عذراء، كانت سبب الموت لها وللجنس البشري بأسره. أمّا مريم العذراء فبطاعتها صارت لها وللجنس البشري بأسره سبب خلاص. من مريم إلى حوّاء هناك إعادة للمسيرة عينها، إذ ما من سبيل لحلّ ما تمّ عقده إلاّ بالرجوع باتّجاه معاكس لفكّ الحبال التي تمّ حبكها. لذلك يبدأ لوقا نسب المسيح ابتداء من الربّ ويعود إلى آدم (لو 3: 22- 38)، مظهرًا أنّ الحركة الحقيقية للولادة الجديدة تسير من الأجداد إليه بل منه إلى الأجداد، وفق الولادة الجديدة في إنجيل الحياة. هكذا أبطلت طاعة مريم معصية حوّاء. ما عقدته حوّاء بعدم إيمانها حلّته مريم بإيمانها. لمحو الضلال الذي لحق بالتي كانت مخطوبة -العذراء مريم حوّاء- حمل الملاك البشارة الجديدة الحقّة إلى التي كانت مخطوبة. العذراء مريم حوّاء ضلّت بكلام الملاك واختبأت من وجه الله بعد أن عصت كلمته، أمّا مريم فبعد أن سمعت من الملاك البشري الجديدة، حملت الله في أحشائها لأنّها أطاعت كلمته. إذا كانت الأولى عصت الله، فالثانية رضيت بأن تطيعه. وهكذا صارت العذراء مريم المحامية عن العذراء حوّاء. وكما ربط الموت الجنس البشري بسبب امرأة، كذلك خُلِّص الجنس البشري بواسطة امرأة".
هكذا رأى آباء الكنيسة في القرنين الأوّل والثاني أنّ لمريم دورًا أساسيًّا في تاريخ الخلاص. وهذا الدور هو دور مزدوج: فقد حبلت بيسوع المسيح بشكل بتولي. إنها امّ المسيح ابن الله. ثمّ إنّها. بإيمانها وطاعتها لكلام الله قد أبطلت معصية حوّاء الأمّ الأولى، وهكذا شاركت بملء حرّيتها في الخلاص الذي جاءنا به ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح.


2- مريم العذراء "والدة الإله" ( )


إنّ الإعلان أنّ مريم العذراء هي حقًّا "والدة الإله" قد تمّ في المجمع المسكوني الثالث المنعقد في أفسس سنة 431 في أيّام الامبراطور ثيودوسيوس الثاني. تلك هي العقيدة المريميّة الأساسية التي تجمع كلّ المسيحيين من كاثوليكيّين وأرثوذكسيّين وإنجيليّين (الملقّبين بالبروتستانت). لماذا تمّ إعلان تلك العقيدة؟ وماذا تعني؟

أ) لقب "والدة الإله" قبل مجمع أفسس


إنّ أوّل شهادة لاستعمال هذا اللقب نجدها في رسالة ألكسندروس أسقف الإسكندرية حول مجمع التأم في الإسكندرية سنة 320 للحكم على بدعة آريوس: "بعد هذا تناولنا عقيدة القيامة من بين الأموات التي صار فيها ربنّا يسوع المسيح باكورة الثمار فقد لبس في الحقيقة لا في المظهر جسدًا اتّخذه من مريم والدة الإله".
إلاّ أنّ هناك صلاة تتوجّه إلى مريم العذراء بهذا اللقب، ويبدو أنّها تعود إلى نهاية القرن الثالث: "يا والدة الإله، لقد لجأنا إلى حنانك، فلا تعرضي عن ابتهالاتنا في المحن، بل نجّينا من الخاطر، يا من هي وحدها نقيّة ومباركة".
وقد ورد هذا اللقب عند كثير من آباء الكنيسة قبل مجمع أفسس، ممّا يبرهن عن شيوعه في الكنيسة الجامعة منذ القرون الأولى. نكتفي هنا بذكر بعض أقوالهم:
القدّيس أثناسيوس الكبير (296- 373): "إنّ الكلمة هو نفسه قد ولد بالجسد من مريم والدة الإله" (عظات ضدّ آريوس 3: 14، 29، 33؛ 4: 32).
القدّيس كيرلّس الأورشليمي (315- 386): "رئيس الملائكة جبرائيل يشهد لله في حمله البشارة إلى مريم، والعذراء والدة الإله مريم تشهد له أيضاً" (عظات 10: 19).
القدّيس غريغوريوس النيصي (330- 395): "إنّ ابن الله قد اتّخذ لنفسه جسدًا من العذراء، لذلك حقّ للعذراء أن تُدعى والدة الإله" (في البتوليّة، 13).
- القدّيس غريغوريوس النزينزي (320- 389): "إن كان أحد لا يؤمن أنّ القدّيسة مريم هي والدة الإله، فهو غريب عن الله" (الرسالة 101: 4- 6).
من أين أتى هذا اللقب؟ لقد استقاه المسيحيّون من قول أليصالات: "من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ؟" (لو 1: 43). فيسوع المسيح هو "الربّ"، ولقب الربّ هو من أسماء الله. "فالربّ هو الله". فإذا كان المسيح هو الربّ، فأمّ الربّ هي "والدة الإله" ( ).


ب- نسطوريوس بطريرك القسطنطينية


إنتخب نسطوريوس بطريركًا على القسطنطينية سنة 428. ويروي المؤرّخ سقراط أنّ أوّل من انتقد لقب "والدة الإله" كاهن يدعى أنسطاسيوس أتى به نسطوريوس من أنطاكية. ففي أحد الاحتفالات الكبرى ارتقى المنبر وراح يمدح مريم العذراء، ثمّ أضاف أنّه مهما كانت مريم العذراء جديرة بالمديح، فلا يجوز أن ننسب لها ألقابًا خاطئة. لذلك "لا يجوز لأحد أن يدعو مريم "والدة الإله"، مريم ليست سوى امرأة، والإله لا يمكن أن يولد من امرأة". يردف المؤرّخ أنّ المؤمنين، لدى سماعهم هذا التهجمّ الكافر، ملأهم الاضطراب والغضب، وقام أحدهم ونعت الواعظ بالتجديف. وإذّاك راح نسطوريوس في عظاته يوضح رأيه في هذا الموضوع. يقول في عظته الأولى:
"منذ بضعة أيّام تُطرَح علينا أسئلة واهية: يسألوننا هل يجوز لنا أن ندعو مريم بلقب والدة الإله، أم يجب أن ندعوها فقط "أمّ الإنسان"؟ كيف يكون لله أمّ؟ إنّنا لدى سماعنا هذا اللقب، لا بدّ لنا من أن نعذر الوثنيين الذين يعطون أمّهات للآلهة. لا، يا صاح، مريم لم تلد الإله... الخليقة لم تلد خالقها، بل ولدت إنسانًا هو آلة في يد الله، إنسانًا حاملاً الله".
إنّ رفض نسطوريوس لقب والدة الإله ناتج من نظرته الخاطئة في تجسّد كلمة الله في أحشاء مريم العذراء. ما هو تعّليمه في هذا الموضوع؟ ولماذا حرمه مجمع أفسس؟
في نظر نسطوريوس، في المسيح طبيعتان متميّزتان تحافظ كل منهما على صفاتها الخاصّة بها، وتعمل عملها الموافق جوهرها. ولكن، بحسب فلسفة مدرسة أنطاكية التي تعلّم فيها نسطوريوس، "كل طبيعة كاملة هي شخص". فالمسيح، ليكون إنسانًا كاملاً، يجب أن يكون متميّزًا عن الشخص الإلهي الذي اتّحد به. فلا وجود إذًا لوحدة حقيقية بين الطبيعتين، الإلهيّة والإنسانيّة، في شخص المسيح الواحد، بل مجرّد علاقة نعمة خاصّة بين شخصين: المسيح الإنسان وكلمة الله. وما يقوله الإنجيل عن المسيح يعود إلى شخصه الإنساني وتارة إلى شخصه الإلهي. فكلمة الله لا يتجسّد ولا يولد كما يولد الإنسان، بل يتّحد بإنسان موجود قبل هذا الاتّحاد. يميّز إذًا نسطوريوس بين شخص المسيح وشخص الكلمة. فشخص المسيح غير شخص الكلمة. الكلمة من طبيعته ابن الله منذ الأزل، أمّا المسيح فهو شخص مخلوق، ولا يمكن أن يقال عنه إنّه ابن الله إلاّ بالتبنّي.
لا شكّ أنّ نسطوريوس يتكلّم عن وحدة في المسيح. فيقول إنّ المسيح الذي هو إله وإنسان، هو شخص ( ) واحد. ولكنّ وحدة هذا الشخص ناتجة، في نظره، من اتّحاد الطبيعتين أو الشخصين المتميّزين. فالطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة اجتمعتا في ما يدعوه نسطوريوس "شخص الاتّحاد".
في ما يختصّ بمريم العذراء، ينتج من نظرة نسطوريوس هذه أنّ مريم هي أمّ المسيح الإنسان، وليست أمّ الكلمة ابن الله. فيجب ألاّ ندعوها "والدة الإله" ( )، بل والدة المسيح ( ).
أمّا الكنيسة الجامعة فتعلّم أنّ وحدة الشخص في المسيح قائمة في شخص الكلمة الذي هو نفسه شخص المسيح الإنسان. فالكلمة الموجود منذ الأزل في الله الآب اتّخذ، بالتجسّد، طبيعة بشرية. فالشخص الواحد في المسيح ليس نتيجة اتّحاد شخص الكلمة وشخص الإنسان، كما يظنّ نسطوريوس في كلامه عن "شخص الاتّحاد". الشخص الواحد في المسيح هو نفسه شخص الكلمة الذي اتّخذ طبيعة بشريّة وصار إنسانًا بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ وأبعاد. بعد التجسّد لم تعد الطبيعة البشريّة غريبة عن كيان الله. فابن الله عاش إنسانًا على الأرض: فحبل به في أحشاء مريم العذراء وولد، وعاش، وصلب، ومات. لقد اختبر ابن الله الحياة الإنسانية في ذاته.


ج) جواب كيرلّس الإسكندري


رُفعت تعاليم نسطوريوس إلى الامبراطور وإلى بطريركي أنطاكية والإسكندرية. وكان على كرسي الإسكندرية آنذاك كيرلّس، وهو صاحب الشخصيّة القويّة والفيلسوف واللاهوتي اللامع وواحد من أعظم آباء الكنيسة. فوضع دراسات حول موضوع النقاش، وبعث بها سنة 429 إلى كل من الامبراطور والبابا سلستينوس بابا رومة، ويوحنّا بطريرك أنطاكية، طالبًا منهم الحكم على نسطوريوس على غرار ما فعل هو.
يرى كيرلّس أنّ رفض لقب "والدة الإله" ينتج منه رفض لوحدة الشخص في المسيح. فيسوع المسيح ابن الله هو شخص واحد. ووحدة الشخص فيه تفرض أن تُطلَق عليه خصائص الطبيعتين اللتين فيه: الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة. فيسوع الإنسان هو نفسه كلمة الله. إنّه شخص واحد، شخص كلمة الله الأزلي، الذي اتّخذ بالتجسّد طبيعة بشريّة وصار هو نفسه إنسانًا. فمن ثمّ يمكن القول "إنّ ابن الله ولد من مريم"، ونعني بذلك أنّه ولد منها بحسب طبيعته البشريّة، كما يمكن القول إنّ "ابن مريم قد خلق الكون" ونعني بذلك أنّه خلقه بحسب طبيعته الإلهيّة. هذا ما يدعوه اللاهوت "اتّصال الخصائص"، أي اتصال خصائص الطبيعتين الإلهيّة والإنسانية في شخص واحد هو شخص المسيح الكلمة ابن الله المتجسّد. وانطلاقا من هذا المبدأ يصح القول "إنّ مريم هي والدة الإله"، لا لأنّها خلقت شخص ابن الله، إذ إنّ هذا الشخص كائن منذ الأزل مع الله، وهو الذي خلق مريم، بل لأنّ الشخص الذي اتّخذ منها جسدًا ونفسًا بشريّين، وحملته في أحشائها مدّة تسعة أشهر وولدته، هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الله والذي صار إنسانًا.
إنّ خطأ النسطورية يقوم على أنّها، للمحافظة على التمييز بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة في المسيح، تصل إلى الفصل بينهما، بحيث إنّ مَن صُلِب ومات ليس شخص ابن الله الواحد في طبيعته البشريّة، بل الشخص البشري فيه، وقد بقي الشخص الإلهيّ غريبًا عن الصلب والموت. وينتج من ذلك أنّ عمل الفداء لم يعد عمل الشخص الواحد الذي هو إله وإنسان معًا، بل صار عمل الشخص البشري في المسيح. وتلك النتيجة لا يمكن القبول بها في الإيمان المسيحي، لأنّ فداء الإنسان لا يمكن أن يتمّ على يد إنسان. إنّ البشرية قد حصلت على الفداء والخلاص، لأنّ الذي خلّصها هو إله وإنسان معًا. ولأنّه إله وإنسان معًا، هو الوسيط الوحيد بين الله والناس، والمخلّص والفادي الأوحد.


د) مجمع أفسس (431)


لم يلتئم مجمع أفسس لتحديد عقيدة بشأن مريم العذراء، بل لتجديد عقيدة بشأن السيّد المسيح. فأعلن، ضدّ نسطوريوس، أنّ المسيح شخص واحد في طبيعتين، وليس شخصين متّحدين أحدهما بالآخر كرامة وسلطة. وينتج من هذا التحديد أنّ مريم العذراء، التي هي أمّ هذا الشخص الواحد، شخص ابن الله، هي حقًّا "والدة الإله". لم يصدر عن المجمع قانون إيمان خاص. بل اكتفى المجمع بالموافقة على رسالة القدّيس كيرلّس إلى نسطوريوس. وقد جاء فيها:
"إنّنا نعترف بأنّ الكلمة صار واحدًا مع الجسد، إذ اتّحد به اتّحادًا أقنوميًّا. فنعبد الشخص الواحد، الابن الربّ يسوع المسيح. إنّنا لا نفرّق بين الإله والإنسان، ولا نفصل بينهما كأنّهما اتّحدا الواحد بالآخر اتّحاد كرامة وسلطة. فهذا القول ليس سوى كلام فارغ. ولا ندعو الكلمة المولود من الله مسيحًا آخر غير المسيح المولود من امرأة. إنّما نعترف بمسيح واحد هو الكلمة المولود من الآب، وهو الذي اتّخذ جسدًا. إنّنا لا نقول إنّ طبيعة الكلمة تغيّرت فصارت جسدًا، ولا إنّها تحوّلت إلى إنسان كامل مكوّن من نفس وجسد. ولكننا نؤكّد أنّ الكلمة، باتّحاده اتّحادًا أقنوميًّا بجسد تحييه نفس عاقلة، صار إنسانًا على نحو لا يفي به وصف ولا يمكن إدراكه، ودعي ابن البشر. هذه الوحدة لم تتمّ بأنّ الكلمة اتّخذ شخصاً ( ) وحسب. وإن اختلفت الطبيعتان اللتان اتّحدتا اتحادًا حقيقيًّا، ففي كليهما مسيح واحد وابن واحد... ليس أنّ إنسانًا اعتياديًّا وُلد من مريم العذراء ثمّ حلّ عليه الكلمة... فالكتاب المقدّس لم يقل إنّ الكلمة وحّد بين نفسه وشخص إنسان، بل قال إنّه صار جسدًا. وهذا التعبير "الكلمة صار جسدًا" لا يمكن أن يعني شيئًا آخر غير أنّه اتّخذ لحمًا ودمًا مثلنا أي جعل جسدنا جسدًا له. ووُلد إنسانًا من امرأة دون أن يخلع عنه وجوده كإله أو ولادته الأزليّة من الله الآب. ولكنّه مع اتّخاذه لذاته جسدًا بقي كما كان. هذا هو إعلان الإيمان القويم الذي ينادى به في كل مكان. وهكذا اعتقد الآباء القدّيسون، ولذلك تجرّأوا على أن يدعوا العذراء القدّيسة "والدة الإله"، ليس لأنّ طبيعة الكلمة أو ألوهيّته كانت بدايتها من العذراء القدّيسة، بل لأنّه منها ولد الجسد المقدّس بنفس عاقلة، وهو الجسد الذي اتّحد به شخصيًّا الكلمة الذي قيل عنه إنّه وُلد بحسب الجسد".


هـ) قانون الوحدة (433)


عُقد مجمع أفسس بغياب وفد أنطاكية الذي كان يرئسه يوحنّا بطريرك أنطاكية، وغياب مندوبي بابا رومة الذين تأخّروا في السفر. ففي 22 حزيران 431، إذ كان موعد افتتاح المجمع قد انقضى، دعا كيرلّس الأساقفة الحاضرين، وكانوا حوالى المئتين، إلى مباشرة أحمال المجمع. ودعي نسطوريوس إلى الحضور ثلاث مرّات، فرفض. فقرئ قانون إيمان نيقية ثمّ رسالة كيرلّس إلى نسطوريوس فجواب نسطوريوس. فوافق الآباء على رسالة كيرلّس، وحكموا على نسطوريوس وأعلنوا في اليوم نفسه إقالته عن كرسيّه. وبعد بضعة أيّام قدم البطريرك يوحنّا مع وفد انطاكية، وقد كانوا من محبّذي نسطوريوس. وفي 26 حزيران حكموا على كيرلّس لكونه تصرّف خلافًا للشرع الكنسي، ورأوا في أقواله سقوطاً في ضلال أبوليناريوس وآريوس. وفي أوّل تمّوز وصل مندوبو بابا رومة. وبعد سماعهم محضر جلسة 22 حزيران وافقوا على كلّ ما جاء فيها، وثبّتوا الحكم على نسطوريوس. ومن ثمّ حرم المجمع يوحنّا بطريرك أنطاكية. وإزاء هذا البلبال أمر الامبراطور بإقفال المجمع وتوقيف كيرلّس ونسطوريوس فنفي إلى ديره الأوّل قرب أنطاكية ثمّ إلى أحد أديرة صعيد مصر.
بعد هذه الأحداث الأليمة التي مزّقت الكنيسة، عمل يوحنّا بطريرك أنطاكية مع بعض الأساقفة على إعادة السلام إلى الكنيسة، ولا سيَّما بين أنطاكية والإسكندرية. وأعيدت الوحدة سنة 433 بعد أن تمّ الاتّفاق علي قانون الإيمان التالي الذي دعي قانون الوحدة، وهو من وضع لاهوتيّي أنطاكية:
"إنّنا نعترف بأنّ ربّنا يسوع المسيح، الابن الوحيد لله، هو إله حقّ، وإنسان حقّ مكوّن من نفس عاقلة وجسد، وأنّه وُلد من الآب قبل كل الدهور بحسب ألوهيّته، وأنّه هو نفسه، في الأزمنة الأخيرة، وُلد لأجلنا ولأجل خلاصنا، من مريم العذراء بحسب بشريّته، وأنّه، في ألوهيّته، من ذات جوهر الآب، وفي إنسانيّته من ذات جوهرنا البشري. فقد صار اتّحاد من طبيعتين. لذلك لا نعترف إلاّ بمسيح واحد وابن واحد وربّ واحد. وبسبب هذا الاتّحاد المنزّه عن أيّ اختلاط، نعترف بأنّ العذراء القدّيسة هي "والدة الإله"، لأنّ الإله الكلمة صار فيها جسدًا، أي صار إنسانًا، ووحّد بذاته، منذ الحبل به، الهيكل (أي الطبيعة البشريّة) الذي أخذه منها".
قبل كيرلّس هذا النصّ والعبارة الواردة فيه والتي تتكلّم عن "الاتّحاد من طبيعتين"، وقد رأى فيه مطابقة مع مختلف نقاط إيمانه في المسيح: إطلاق خصائص الطبيعة البشريّة على الشخص الواحد الذي هو الابن الوحيد لله، وحدة الشخص في المسيح، لقب "والدة الإله" لمريم العذراء. إنّ مريم قد أعطت طبيعة بشريّة كاملة لابن الله وكلمته الأزلي. هذا هو أساس إكرامنا إيّاها. إنّها حقًّا أمّ المسيح ابن الله المتجسد. إنّها حقّا "والدة الإله".
والليترجيّا البيزنطيّة ترنّم لها في القدّاس الإلهي قائلة:
"إنّه واجب حقًّا أن نغبّطك يا والدة الإله الدائمة الغبطة، والمنزَّهة عن كلّ عيب وأمّ إلهنا. يا من هي أكرم من الشيروبيم، وأمجد بلا قياس من السيرافيم، يا من بغير فساد ولدت كلمة الله، إنّك حقًّا والدة الإله، إيّاك نُعظّم".


و) أبعاد "الأمومة الإلهيّة ومعانيها"


إنّ حبل مريم العذراء بيسوع المسيح لم ينتج عنه إذًا تكوين شخص جديد لم يكن له وجود سابق، كما هي الحال في تكوين سائر البشر، بل تكوين طبيعة بشريّة اتّخذها الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الموجود أقنومًا منذ الأزل في جوهر إلهي واحد مع الآب والروح. في يسوع المسيح ليس إلاّ شخص واحد، شخص ابن الله. وهذا الشخص هو الذي أخذ طبيعتنا البشريّة من جسد مريم، وصار بذلك ابن مريم وكائنًا بشريًّا حقيقيًّا كما ترنّم الكنيسة:
"اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول. وجبرائيل بالنعمة يبشِّر. فلنهتف معه نحو والدة الإله: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الربّ معك".

مريم أمّ حقيقيّة
"إبن الله صار ابن البتول"، وصارت هي "والدة الإله". مريم هي أمّ المسيح الإله بكل ما في لفظة "أمّ" من معنى حقيقي وواقعي، على غرار أيّ أمّ أخرى من أمّهات البشر. لكنّ أمومتها هي من نوع خاصّ. إذ إنّ الأبوّة البشريّة لم يكن فيها أيّ دور. فقدرة العليّ هي التي ظلّلت مريم العذراء وبذرت الحياة في أحشائها. إنّ كون مريم لم تعرف رجلاً لا ينقض حقيقة أمومتها ولا يحطّ من شأنها. إنّ كون مريم العذراء ولدت كلمة الله وهي بتول لا يجعل منها أقلّ أمومة من سائر الأمّهات. بل على خلاف ذلك، يظهر فيها الأمومة. فبتوليّتها هي علامة ملء استسلامها لله، إله المحبّة والحياة. لقد استسلمت بكلّ كيانها لدعوة الله اليها لتصير أمَّا لابنه الوحيد، فصار كيانها كلّه شعلة حب وينبوع حياة بشريّة. وبقدرة الروح القدس الذي ظلّلها، استطاع كيانها البشري أن يكوّن كيانًا بشريًّا جديدًا. فهي إذًا فيض من الحياة وينبوع حياة. بحيث يصحّ القول إنّ مريم هي أمّ وأكثر أمومة من أيّ أمّ سواها، لأنّها وحدها، دون مباشرة رجل، أعطت ابنها وربّنا يسوع المسيح كلّ ما فيه من طبيعة بشريّة. إنّ ابنها قد استمدّ بشريّته كاملة من جسدها ودمها. بتعبير آخر، لم تكن مريم بحاجة إلى أن تضمّ بعضًا من مزاياها الأنثويّة الى مزايا رجل من البشر لتكوين إنسانيّة ابنها. لقد أظهر علم الوراثة أنّ كلّ خليّة من خلايا جسم الطفل مركبّة بصورة متجانسة ومتساوية ممّا ينتقل اليها بالوراثة من كلا الوالدين. أمّا طبيعة المسيح الإنسانيّة فقد استمدّها كلّها من طبيعة أمّه.

حضور الله في مريم العذراء
إنّ طبيعة المسيح البشريّة قد تكوّنت إذن في أحشاء مريم العذراء بقدرة الله الخلاّقة فالله وحده أعطى مريم أن تكون أمًّا، إذ خلق مباشرةً الحياة في أحشائها. من هذه الحقيقة ينتج أنّ هناك علاقة فريدة وألفة لا توصف بين أبوّة الله الخلاّقة وبتوليّة العذراء في الجسد. لذلك دعا التقليد الكنسي مريم العذراء "عروس الله". لا ريب أنّ هذه العبارة قد تبدو تجديفًا على اسم الله لمن لم يدخل بالإيمان في سر عمل الله على الأرض. لذلك يجب استعمالها بحذر وتحفّظ، مع التنبّه إلى أنّ هذه العبارة يجب ألاّ تؤخذ بمعناها الحرفي، بل جلّ قصدها التأكيد أنّ مريم قد حبلت بالمسيح بشكل بتولي، وأنّ ابنها بالجسد هو نفسه ابن الله الكائن منذ الأزل مع الآب والروح. فالسيّد المسيح بقي في أحشاء مريم إلهًا تامًّا، أحد الثالوث الأقدس، وإن اتّخذ طبيعة بشريّة تامّة. فمن الناحية البشريّة هو ابن العذراء وحدها، إذ استمدّ منها بقدرة الله كل ما جعله إنسانًا. ومن الناحية الإلهيّة هو ابن الآب الأزلي. وهكذا تحقّق في مريم العذراء هذا الالتئام العجيب: فالطفل الذي ولدته هو منها في طبيعته البشرية، ومن الآب وحده في طبيعته الإلهيّة. فالله هو أبوه في السماء، ومريم هي أمّه على الأرض.
الله حاضر إذًا في مريم العذارء بقدرته الخلاقة وبأبوّته الأزلية. وابن الله حاضر أيضًا في مريم لأنّها صارت له أمًّا. والأمومة هي حضور، أي علاقة بين شخصين. إنّها ينبوع منه تتفجّر حياة تبقى مماثلة للينبوع الذي صدرت منه، ومتّصلة به اتّصالاً وثيقًا. إنّ العلاقة التي تجمع بين الأمّ وابنها هي أعمق نوع من الحضور. وقد اكتسبت الأمومة في مريم حضورًا أكثر عمقًا وأكثر شموليّة. فالعلاقة فيها هي بين الخالق وخليقته، بحيث إنّ السماء، من خلال أمومة مريم، ارتبطت بالأرض ارتباطًا دائمًا، والأرض صارت سماء. الله اتّحد هو نفسه بخليقته، والخليقة تألّهت. ابن الله، الإله من الإله، صار واحدًا من بني البشر وأخًا لكلّ كائن بشري، وجعل كلّ أبناء البشر واحدًا معه، وإخوة وأخوات حقيقيين بعضهم لبعض. وليس أدلّ على ذلك ممّا قاله الشاعر الألماني "غوتيه" موجزًا تعليم الديانة المسيحيّة في مريم العذراء: "المرأة هي السبيل الى السماء". لا سبيل آخر أمام الله كي يتّحد بالبشريّة، وأمام البشر كي يرتفعوا الى الله.
ثمّ إنّ الأمومة لا تقتصر على أمور الحبل والولادة وعلى ما تتضمّنه من نشاطات طبيعيّة. فالطفل هو جزء من كيان أمّه، ليس فقط خلال فترة تكوين شخصيّته، بل حتّى بعد الموت. الطفل هو على الدوام جزء من أمّه. لذلك لا يمكننا التفكير بالمسيح الربّ دون مشاهدة أمّه واقفة الى جانبه. فالمسيح كان وسيبقى على الدوام ابن مريم، ومريم ستظلّ على الدوام أمّ المسيح. من هنا تتراءى لنا مريم دائمة الحضور الى جانب ابنهإ، كلمّا وضعنا ذواتنا في حضور ابنها ربّنا وإلهنا. وكلّما دفعتنا الحاجة الى وجه بشري ليتألّق به وجهنا المضطرب، ويتوطّد به قلبنا الجزع أمام الله، نجدها دومًا واقفة إلى جانبه تنير قصدنا وتثبّت عزائمنا. ولا عجب في ذلك، ما دامت هي تلك المرآة التي تعكس صورة ابنها علينا، والسبيل الذي يقودنا الى حضوره. من خلالها جاء الى العالم، ومن خلالها يرتقي العالم الى الله.
إنّه لمن المهمّ جدًّا أن نؤكّد أنّ مريم لا يمكن إدراكها إلاّ على ضوء المسيح. كما أنّه من الضلال النظر الى المسيح على ضوء مريم. فالمسيح هو اللؤلؤة (راجع متّى 13: 45 "يشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلىء حسنة. فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كلّ ما كان له واشتراها")، ومريم هي الصدفة التي أبرزت اللؤلؤة، كما نرنّم لها في قانون المدايح في الطقس البيزنطي: "السلام عليك يا صدفة عجيبة جدًّا أبرزت اللؤلؤة الإلهيّة" (الأوذية الخامسة، 5). والقول "إنّ مريم هي سبيلنا الى الله" لا يعني مطلقًا أنّ المسيح بعيد عنّا، أو إنّ بيننا وبينه هوّة لا نستطيع العبور فوقها إلاّ بواسطة مريم. فالمسيح هو وحده عنصر خلاصنا. ولكن، بما أنّ مريم هي أم المسيح، والكائن البشري الأول الذي قبل عطيّة الله قبولاً أسمى، نعتبر نحن البشر أنّ جوابها للملاك "ليكن لي بحسب قولك" ينطوي على إيمان كلّ منا. لذلك، معها وتحت كنفها، ننفتح على عطيّة الله ونلتقي المسيح الذي هو خلاصنا الأوحد.
فإنّ الحقيقة الخلاصيّة، بالنسبة الينا نحن المسيحيّين، ليست صيغة فكريّة نعتنقها، بل هي شخص نتّحد به، شخص يسوع المسيح الإلهي، الذي هو رسالة سعادة عارمة. المسيح هو حقًّا "المحبّ البشر"، أي الذي يحبّ كلّ كائن بشريّ، والذي يفيض على الجميع من دفق الخير والصلاح ما يفوق تصوّرات البشر وتوقّعاتهم. ولقد أفاض على مريم العذراء أمّه ما قصده منذ الأزل لخلاص البشر.
إنّ هذا التعليم في مريم يعبّر عنه أجمل تعبير نشيد المدايح:
"الأقطار تمدحك مغبّطة، وتصرخ اليك: السلام عليك، أيّتها النقيّة، يا كتابًا كُتِب فيه الكلمة بإصبع الآب. فإليه ابتهلي، يا والدة الإله، أن يكتب أبناءك في سفر الحياة" (الأوذية السابعة، 4).
ويؤكّد في موضع آخر التناقض بين الإله الذي يمسك الخليقة كلّها في قبضته ويغذّي كلّ كائن حيّ، والطفل الذي تمسكه مريم بين ذراعيها وتغذّيه بلبنها:
"لقد قبلت في أحشائك الكلمة، وحملت حامل الكون، وغذوت باللبن، يا نقية، المغذّي المسكونة كلّها بإشارة" (الأوذية الثامنة 10)
وفي صلوات عيد الميلاد نذهل للتناقض بين الأزلي الذي خلق الزمن والذي يبدأ اليوم ليحيا في الزمن:
"البتول حبلت، والإله الأزلي وُلد. الولادة منظورة. وما يتمّ يفوق الطبيعة. يا للسرّ الرهيب! إنّ ما نمسك به لا يوصف، وما نراه يفوق الإدراك! مباركة أنت، أيّتها العذراء النقيّة، يا ابنة آدم المجبول من التراب، ويا أمّ الإله العليّ".
هناك ألفاظ ترد مرارًا في الصلوات الليترجيّة للتعبير عن حضور ابن الله المتجسّد في أحشاء مريم: فهو "الذي لا يحويه مكان" و"اللامتناهي"، و"غير المحدود". فمريم قد وسعت في أحشائها "الذي لا يحويه مكان"، و"غير المحدود". لذلك هي "أرحب من السماوات".

تلاشي ابن الله في تجسّده في أحشاء مريم العذراء
يقول بولس الرسول عن ابن الله المتجسّد: "هو القائم في صورة الله، لم يعتدّ مساواته لله حالة مختلسة، بل لاشى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرًا شبيهًا بالبشر" (في 2: 6- 7). تلاشى ابن الله يعني إفراغ ذاته من كلّ مظاهر مجد ألوهيّته ليظهر في صورتنا البشرية. فلو ظهر الله في ملء مجده، من كان يستطيع أن يحتمل بهاء ظهوره؟ إنّ ابن الله أخذ من مريم العذراء جسدًا حقيقيًّا، وكانت حياته في أحشائها حقيقيّة بقدر ما هي كذلك حياة أيّ كائن بشري في أحشاء أمّه.
نجد في الإنجيل المقدّس إشارات أخرى الى "تلاشي" ابن الله. فيسوع هو من سلالة داود. وهو إذًا عضو حقيقي من أعضاء عائلتنا البشريّة. ولتأكيد هذه الحقيقة بصورة أكثر وثوقًا، تورد لنا الأناجيل نَسَبين مختلفين ليسوع يصلان كلاهما الى يوسف الذي اعتبره معاصروه والد الطفل الإلهي (متّى 1: 1- 17؛ لو 3: 23- 28). والكنيسة تحتفل بهذه الحقيقة بتخصيص الأحدين اللذين يسبقان عيد الميلاد لذكر أجداد المسيح. وتضيف اليهم هابيل وموسى وهارون والنبيّين إيليّا وأيّوب. وهؤلاء، وإن لم يكونوا من أجداد المسيح، إلاّ أنّهم كانوا صورة له، وبعضهم تنبّأ بمجيئه. وما حضورهم يوم العيد في بيت لحم إلاّ للتأكيد أنّ يسوع المسيح هو إنسان حقيقي، وأنّه أخذ كل شيء من الطبيعة البشريّة.
كذلك الثلاثة الفتية القدّيسون الذين كانوا في بابل ليسوا من أجداد المسيح. بيد أنّنا نكرّمهم ونأتي على ذكرهم في الأناشيد والتسابيح الليتورجيّة، لأنّ حياتهم في الأتّون الملتهب كانت أشبه بنبوّة وبيان عن حقيقة حضور المسيح في أحشاء مريم العذراء. فكما أنّ لهب الأتّون غمرهم دون أن يهلكهم، كذلك تغلغل لهيب الألوهيّة في مجمل كيان مريم وأقام فيها دون أن يحرقها، ولا أن يمسّ نقاوة جسدها أو نفسها.
وإضافة الى كلّ هؤلاء الذين تدعوهم الرسالة الى العبرانيّين "هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود" (عب 12: 1)، تحتفل الكنيسة، في الأحد الأوّل الذي يلي عيد الميلاد، بذكرى يوسف خطّيب مريم وداود الملك جدّ المسيح ويعقوب الذي يدعوه الإنجيل "أخا الرب" أي نسيب السيّد المسيح. والهدف من كل هذه التذكارات والاحتفالات الإعلان أنّ الذي حملته مريم في أحشائها تسعة أشهر هو حقًّا الإله من الإله، وفي الوقت عينه إنسان حقيقي من لحمنا ودمنا، مرتبط بجذور إنسانيّتنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة.
الخطيئة حالة تشمل البشريّة كلّها. وكلّ إنسان يولد خاضعًا لقدرتها باستثناء ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من جسد مريم أمّه وصار إنسانًا حقيقيًّا، ولكن دون أن يخضع لقدرة الخطيئة. فالخطيئة تتنافى وألوهيّته. هذا هو السرّ العظيم المحجوب عن الملائكة والبشر، والذي لم يخطر على قلب إنسان. لذلك كان على مريم الكلّية القداسة أن تذهب الى الهيكل بعد ولادتها المسيح لكي تتطهّر وفقًا لشريعة موسى، لأنها في ذلك شأن سائر الأمّهات اليهوديّات. كما كان على ابنها أن يخضع للختانة حسب الشريعة عينها، إذ إنّه ظهر إنسانًا "آخذًا صورة عبد". تلك هي أيضا بعض مظاهر "تلاشي" الله.
بروح لطيفة من النكتة يشير آباء الكنيسة ومعظم كتبنا الليتورجيّة الى غضب الشيطان لمّا اكتشف أنّ "العبد" كان في الواقع "ربّ الكل". لقد وقع آدم في الخطيئة ووقع فيها جميع الناس. فسرّ الشيطان بذلك. ولمّاُ ولد المسيح ظنّ الشيطان أنّه هو أيضًا خاضع للخطيئة. إلاّ أنّ المسيح ظهر منزّهًا عن الخطيئة فألحق بالشيطان الهزيمة.


3- مريم العذراء الدائمة البتوليّة


مريم العذراء هي "أمّ وبتول معًا". وهي، بحسب إيماننا المسيحي، "الدائمة البتوليّة". ويؤكّد اللاهوت والليترجيّا أنّ مريم هي بتول قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة. أي إنّها حبلت بيسوع المسيح دون مباشرة رجل: تلك هي بتوليّة مريم قبل ولادتها ابنها يسوع؛ ثمّ إنّها ولدته وبقيت بتولاً: تلك هي البتولية في الولادة؛ وبعد أن ولدته لم يكن لها علاقة مع أيّ رجل: تلك هي البتوليّة بعد الولادة. إنّ ما تكرز به المسيحيّة قد يبّدو مناقضاً للعقل. ولكن ليس من أمر يستحيل على الله. فالذي في البدء وضع نواميس الحبل والولادة لدى البشر يغيّرها الآن في الحبل به وولادته، جامعًا في أمّه أروع مفخرتين تعتزّ بهما كلّ النساء: البتوليّة والأمومة.

أ) البتوليّة قبل الولادة


كان حبل مريم بالسيّد المسيح حبلاً بتوليًّا أي دون مباشرة رجل. وفي ذلك تناغم مع إيماننا المسيحي الذي يشهد أنّ الذي حبلت به مريم هو ابن الله، كما رأينا في مختلف النصوص الإنجيليّة في الفصل الأوّل. فهناك انسجام بين بتوليّة مريم وعقيدة التجسّد. ثمّ إنّ بتوليّة ليست بتوليّة في جسدها وحسب، بل هي اتّحاد كلّ كيانها بالله.
الانسجام بين بتوليّة مريم والتجسّد
إنّ الله إلهنا حقيقة رائعة، وأعماله عظمة وجلال. وهذا ما تجلّى في ما صنعه الله في مريم. من عظائم. ففيها يسمو الله المنطق البشري ومقاييسه ويتخطّى قوانين الطبيعة البشريّة وحدودها. فإنّ من وضع النواميس لتكوين الطبيعة البشريّة وتطويرها قد وضع لذاته نواميس جديدة أروع من الأولى. من العبث محاولة طرح الأسئلة حول هذه النواميس الجديدة في حين لا تزال النواميس الأولى جيّدة وصالحة. إنّ محاولة كهذه لا ينتج منها سوى التخبّط في لجج الضباب، وهي الى ذلك امتهان لقدرة الله الذي خلق من العدم هذا الكون الفائق الجمال. وعلى كل من الأسئلة التالية: لماذا؟ من أين؟ كيف؟ ليس سوى جواب واحد: هذا هو عمل الله الذي تجلّى لنا في شخص يسوع المسيح الذي نؤمن أنّه كلمة الله وابن الله المتجسّد.
كلّ ما يصنعه الله هو آية في الروعة والكمال. فلقد حدّد في ناموس الخليقة الأوّل أنْ ليس من امرأة يمكن أن تجمع في ذاتها بين البتوليّة والأمومة. ولكنّه في ناموس الخليقة الجديد صنع مريم أمّه وحباها سمات إلهيّة أمكنتها من أن تجمع بين كلتا المفخرتين. في الناموس الأول حدّد أنّه لا يمكن أيّ كائن بشري أن يولد دون علاقة جنسيّة بين رجل وامرأة، وفي الناموس الثاني جعل الحبل به في أحشاء فتاة من بني جنسنا دون مباشرة رجل. هو مجده الإلهي قد سكبه على أمّه ليملأ به بواسطتها البشريّة كلها.
إنّ موضوع الحبل بربّنا يسوع المسيح البتولي في وأحشاء مريم العذراء هو لديانتنا المسيحية هامّ جدًّا لم بحيث وقفت الكنيسة ذاتها وجنّدت كلّ الفلسفات البشريّة والشعر والفنّ لإبراز مدلولاته الرائعة، ولم تكلّ في العمل على تفسير أبعاده العميقة. لقد أنشدت لهذه الحقيقة الرائعة مؤكّدة أنّ هذا الحبل البتولي ليس اختراعًا ولا وسيلة للحطّ من كرامة النشاط الجنسي البشري. فالمسيحيّة تعتبر النشاط الجنسي عملاً مقدّسًا يوحي به الإنسان بذاته، وسبيلاً إلهيًّا به يتمّ التعرّف الى شخص ويتكوّن كائن بشري جديد. ولكن كان لا بد أن يتمّ الحبل بالمسيح بطريقة خاصّة لتظهر بجلاء كلّ معاني التجسّد.
فإنّه، مذ قُيّض لطبيعة المسيح البشريّة أن تكون مصدرًا ومنشأ لإحياء البشريّة على صورة جديدة سماويّة، كان لا بدّ لها أن تتكوّن بشكل جديد ويكون لها مصدر سماوي.
وهكذا كان لا بدّ للمسيح أن يأتي الى هذا العالم بطبيعة بشريّة لم يستمدّها من أيّ مصدر أرضي بل من مصدر إلهي يفوق طبيعة البشر، لأنّها تحمل في ذاتها معاني وأبعادًا مغايرة لما تتضمّنه أيّ ولادة بشريّة أخرى. فالمعنى الأوّل لعقيدة الحبل البتولي بيسوع هو إذًا أنّ هناك انقطاعًا مع تاريخ الإنسان الخاطىء وإعلانًا أنّ خلاص الإنسان وتجديده يتحقّقان بتدخّل مباشر من قبل الله. كان لا بدّ للمسيح أن يمنح العالم شيئاً جديدًا برمّته، أكثر إبداعًا وأكثر روعة من أيّ شيء آخر في تاريخ البشريّة كلّها، أعني الفداء والتألّه. ففيه قُيّض للبشرية كلّها أن تُخلَق من جديد وتتألّه. وهذا ما يعنيه بولس الرسول في المقارنة التي يقيمها بين الإنسان الأوّل الذي تكوّن من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني الذي أتى من السماء. "فالإنسان الأوّل، آدم، حسب قوله، لم يكن إلاّ نفسًا حيّة، أمّا الإنسان الثاني، يسوع المسيح، فهو روح يحيي" (1 كور 15: 45- 48). ينتج من ذلك أنّ كلّ بشريّة المسيح كان لا بدّ لها أن تكون خليقة جديدة، وأن تكون برمّتها عمل الله دون سواه. وعليه ينطبق ما يقوله يوحنّا الإنجيلي عن المدعوّين لميراث الملكوت: "هو الذي لم يولد من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو 1: 13). إنّ المسيحيّة، بتأكيدها حبل مريم البتولي، تهدف أوّلاً إلى إعلان إيمانها بأنّ يسوع المسيح هو أوّلاً وآخرًا "ابن الله". هذا ما يعنيه القول الأوّل من قانون الإيمان: "وتجسّد من الروح القدس".
أمّا القول الثاني "ومن مريم العذراء" فيؤكّد الدور الذي تحتلّه البشريّة في سرّ التجسّد. فذكر بتوليّة مريم في قانون الإيمان هو للإشارة الي أنّ الدور الذي أدّته البشريّة في التجسّد هو قبول عطيّة الله وليس أكثر. فباسّم البشريّة قبلته مريم دعوة الله وقالت: "ها أنا ذا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1: 38). فقانون الإيمان يؤكّد إذن أمرين: أوّلاً إنّ حياة المسيح على الأرض لم تستمدّ معينها إلاّ من الله وحده، وثانيًا إنّ مريم أسهمت في هذا الحدث بقبولها عطيّة الله.

بتوليّة مريم اتّحاد كل كيانها بالله
للتعبير عن بتوليّة مريم نستعمل ألفاظاً عدّة. فندعوها "التي لم تختبر زواجًا"، و"التي لم تختبر رجلاً"، والتي "لا عروس لها". ليس القصد من تلك التعابير الانتقاص من قيمة الزواج ولا الإشارة الى أنّ الزواج ليس على هذا القدر من النبل والقداسة لتقبل به مريم، بل تهدف الى فتح الآفاق واسعة أمام عقلنا ومخيّلتنا للتأمّل، في رؤيا بهاء وتحرّر، في تلك التي اختبرت أعمق علاقة شخصيّة مع الله يمكن أن يختبرها إنسان، بحيث لم يكن لها حاجة لعلاقة اكتمال جسدي مع أيّ كائن بشري.
لقد امتلك الله مريم وملأها أخلاقيًّا ونفسيًّا وطبيعيًّا بملء ما يمكن امرأة أن تتوق إليه فجعلها امرأة كاملة. إنّ مريم باستسلامها لعمل الله الخلاّق فيها اختبرت ملء الاكتفاء وملء النشوة التي يمكن كائنًا بشريًّا البلوغ اليها على هذه الأرض، بحيث لم يكن لأيّ متعة جسديّة، ولا لأيّ لذّة ناجمة من أي عمل آخر، إضافة شيء على هذا الملء.
إنّ النشوة التي تنتج من متعة الجسد في الكائنات البشريّة لا تدوم إلاّ لحظة عابرة فتذوب وتذوي سريعًا. لذلك لا بدّ من تكرارها وإذكاء شعلتها ليتاح لعلاقة الحبّ أن تستمرّ بواسطتها حيّة بين الزوجين. أمّا في مريم فنشوة الحبّ كانت نشوة كاملة وثابتة، لأنّ استسلامها كان استسلامًا مطلقًا لله الذي لا حدّ له، ومعرفتها كانت "معرفة" كاملة لله الذي لا نهاية له.
إنّ استسلام الذات ووحي الذات لشخص آخر، وقبول الاثنين المتبادل في عمل الولادة، هو السبيل الأعمق والأكمل لمعرفة الشخص. لذلك يطلق الكتاب المقدّس والتراث المسيحي لفظة "معرفة" على هذا الاستسلام الشخصي وعلى هذا الوحي المتبادل الذي يوحّد الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في سبيل الإنجاب. أن "يعرف الرجل امرأته" وأن "تعرف المرأة رجلها"، هاتان العبارتان يلجأ اليهما الكتاب المقدّس للدلالة على الاتّحاد الكامل بين الرجل والمرأة في الجسد والروح.
في الكائنات البشريّة لا يقتصر اتّحاد الرجل والمرأة في سبيل الإنجاب على اتّحاد الأجساد، بل يشمل الجسد والنفس والروح والعقل والأحاسيس والمشاعر كلّها. فالشخص الذي يخرج من ذاته ليتّحد بالآخر يصير حاضرًا في الآخر في كل كيانه: في جسده ونفسه وروحه. هكذا يوحي شخص بذاته لشخص آخر ويستسلم له. ووحي الذات لآخر والاستسلام له يصلان الى أعماق الوعي البشري، فيوقظان كلّ ما في الكيان من قوى طبيعيّة ويحوّلان الذات كلّها. وعلى هذا النحو، إذ يستسلم الزوجان أحدهما للآخر، يمتلىء كلّ منهما من صفاء إشعاع الآخر، فيتحوّلان ويصيران واحدًا. تلك هي "معرفة" الشخص، وتلك المعرفة أعمق وأكمل من أيّ معرفة يمكن أن تأتي عن طريق العلم أو الفلسفة.
لمّا استسلمت مريم كليًّا لله، ملأ الله كيانها بوحي ذاته، فعرفت مريم الله معرفة كاملة في نفسها وروحها، وحتى في جسدها وكلّ مشاعرها. ودخلت، في كلّ ما فيها من توق الى الاكتمال، في غمرة الحبّ الإلهي الذي لا ينضب. فصار لها هذا الحبّ ينبوع فرح لا يجفّ ومصدر نشوة ترتقي بها "من مجد الى مجد"، بحيث لم يكن لأيّ لذّة أخرى أن تضيف شيئًا إلى هذا الفرح. إنّ البتولية في مريم تعني أنّ مريم، بفضل وحي الله لها ومعرفتها لله، بلغت غبطة الملكوت التي يشير اليها السيّد المسيح في وصفه القيامة العامة حيث "لا يزوّجون ولا يتزوّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء" (متّى 22: 30).

البتوليّة حرّية
في نظر المسيحيّين تنطوي البتوليّة على أكثر من مجرّد العفّة الجسديّة. فالرهبان والراهبات يرون فيها حرّية شخصيّة واتّحادًا صوفيًّا بالله وموقفَ محبّة مسرة على الدوام لتتميم إرادته الإلهية. ليست البتوليّة اختيار من خاب أمله في الحياة، بل هي فضيلة الذين بملء إرادتهم يحتفظون بتيّار حبّهم كاملاً لمن سيبادلهم كامل الحبّ. ولا بدّ من التذكير دومًا بأنّ الإشادة بالبتوليّة لا تحمل في ذاتها أيّ انتقاص لقيم الجسد ولا لقيم العطف والحنان التي ينطوي عليها قلب الإنسان. بل إنّ تلك القيم تتضاعف في البتوليّة الحقّة التي تشمل الإنسان في كلّ ما فيه من جسد ونفس وروح.
فالبتوليّة هي إذن كمال الحرّية، إذ بها تتحرّر كل قوى الكائن البشري اليافعة وتتوحّد وتجعل من يختارها منفتحًا على اكتمالها بلمسة المحبّ الكامل. وفي انتظار اكتمالها، تنمو في تألّق الجمال وتقوى في المجد. وتصل الى قمّة نشوتها في استسلامها لحبيبها والاتّحاد به حتى التماثل. في هذا المعنى تبدو البتوليّة أكثر من مجرّد عطيّة ملوكيّة. إنّها نبل وشهامة.
إنّ الله لا يفرض ذاته علينا، ولا يزيل حرّيتنا. فهو الذي يقدّم ذاته لنا، لا ليغتني بنا، بل ليغنينا بذاته ويتمّ فينا عمل تأليهنا. هكذا استسلمت مريم لله، لا ليغتني بها، بل لتغتني به وتفتح له السبيل لينزل الى خليقته، وتتيح له أن يظهر حبّه اللامتناهي للبشريّة والخليقة.

ب) البتوليّة في الولادة
كانت بتوليّة أمّ الله ولا تزال موضوع فخر ومجد لدى المسيحيّين، مع العلم أنّ الحديث عن هذا الموضوع لا يمكن أن يكون إلاّ بمنتهى التحفّظ والدقّة. إنّ تجسّد كلمة الله في أحشاء مريم العذراء يضفي على كل الأحداث التي ارتبط فيها مصير مريم العذراء بمصير ابنها بعدًا إلهيًّا. إنّ حبل مريم البتول بالسيّد المسيح هو على هذا القدر من التألّق بحيث يشعر المرء بحاجة الى لغة الملائكة للتحدّث عنه. وكم هي مؤسفة رؤية رجال اللاهوت يعالجون موضوعًا دقيقًا كهذا بأسلوب بيولوجي فجّ لا يليق بفكرٍ تغذّى بروح الإنجيل.
يؤكّد التقليد المسيحي ابتداء من القرن الرابع، ولا سيّما مع القدّيس أمبروسيوس، أنّ ابن الله خرج من أحشاء كما دخلها: في مجد الألوهة وبهاء سرّها، وقد حُفظت سالمة بتولية العذراء.
هذا ما ترنّم به الليترجيا البيزنطيّة بذهول وابتهاج:
"لقد تمّ اليوم عَجَب عظيم مُستغرَب: فإنّ بتولاً تلد وتبقى عذراء كما كانت. الكلمة يصير طفلاً ومن الآب لا ينفصل. الإله الكلّيّ الكمال يصير طفلاً والطفل يولد دون أن يزيل بتوليّة أمّه"
وفي هذا يهتف القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص:
"يا لَلْمعجزة الرائعة: العذراء تصير أمًّا وتبقى عذراء. لا البتوليّة حالت دون الولادة ولا الولادة أزالت البتوليّة. ولقد كان من الملائم أنّ الذي صبار إنسانًا لينقذ البشريّة من الفساد يستهلّ عمله بتلك التي ولدته فيحفظها من الفساد".
ثمّ يتابع قائلاً:
"هذا ما سبق موسى فرآه في النار التي ألهبت العلّيقى دون أن تحرقها. فكما أنّ العلّيقى كانت ملتهبة لم تحترق كذلك ولدت البتول النور دون أن يعتريها الفساد".
وعلى النحو نفسه قال القدّيس إيرونيموس، وهو من أعاظم من كتب في الكتاب المقدّس:
"مريم هي أمّ وبتول: بتول قبل الولادة وبتول بعد الولادة. الدهشة تغمرني: كيف من هو بتول يولد من البتول؟ وكيف بعد ولادته تبقى أمّه بتولاً؟ أتريد أن تعرف كيف ولد من عذراء وبقيت أمّه عذراء بعد الولادة؟ عندما دخل يسوع على تلاميذه من بعد قيامته "كانت الأبواب مغلقة" (يو 20: 19). لا تعرف كيف حدث ذلك لكنّك تقول: هذه قدرة الله. وكذلك عندما تعلم أنّ يسوع وُلد من عذراء وبقيت أمّه عذراء بعد الولادة قل: هذا عمل قدرة الله".
لمّا خرج الطفل الإلهي من أحشاء أمّه لم ينتزع عنها صفاء مشاعرها البتوليّة، بل بالحريّ أضفى على قواها الحياتية مزيدًا من الفخر والبهجة، وعلى معنى أمومتها مزيدًا من الجلال والعظمة. لقد اجتمعت في مريم مشاعر البتوليّة ومشاعر الأمومة.
والكائن البشري هو، بحسب بولس الرسول، جسد ونفسه وروح. فالجسد هو مجموعة الأعضاء الطبيعيّة والخلايا الحيّة التي هي جزء من مادّة هذا الكون. والنفس هي مجموعة القوى من عقل وإرادة ونحيّلة ومشاعر. وفي عمق الجسد والنفس هناك عنصر ثالث يدعوه بولس الرسول "الروح" (روم 8: 16)، ويعني بها نقطة التلاقي مع الكون ونقطة الاختبار الشخصي لعمق كياننا الباطني الذي به ندخل في شركة مع غير المنظور. إنّ الرجل والمرأة، من خلال الاستسلام المتبادل من أحدهما للآخر بكل ما في شخصيهما من قوى رائعة في الجسد والنفس والروح، يزيدان غنى وإنسانيّة وبالتالي اتّحادًا بالله.
إنّ "ختم البكارة" هو رمز الملء الطبيعي وكمال كل تلك القوى. ويشير أيضاً إلى صفاء القلب والجسد والنفس الذي يَسِم تلك القوى. إنّه حالة من الكيان تحافظ فيها كل قوى الجسد والنفس والروح على نقاوتها الأولى، وتبدو متألّقة في ما حباها الله من احترام وسخاء، ومترقّبة لمسة الحبيب الكامل.
لم يكن لمريم أن تستسلم بأيّ من قواها لحبيب بن بني البشر، فقد احتفظت بكلّ قوى جسدها ونفسها وروحها متألّقة وعذراء للمسة الله. لقد حفظت "ختم بكارتها" سالمًا في المجد. وهذا ما تشير إليه النجوم الذهبيّة الثلاث التي نشاهدها في كل إيقونات العذراء مريم. فعلى جبينها نجمة أولى ترمز إلى بتوليّة جسدها، أي إلى بتوليتها في الولادة: مريم هي أمّ وبتول معًا؛ وعلى كتفها اليمنى تتألّق نجمة أخرى رمزًا إلى بتوليّتها قبل الولادة، أي إلى بتولية نفسها: فمريم كانت بتولاً قبل الأمومة؛ وعلى كتفها اليسرى نجمة ثالثة تؤكّد بتوليّتها بعد الولادة، أي بتوليّة روحها: وهذه البتوليّة ستبقى فيها على مدى أمومتها المجيدة إلى الأبد. وهكذا مريم هي إلى الأبد أمّ وبتول معًا.


ج) البتوليّة بعد الولادة


إنّ الكنيسة بتأكيدها بتوليّة مريم العذراء حتّى بعد ولادتها ابنها يسوع، تعلن عن اعتقادها أنّ مريم لم يكن لها علاقة جنسيّة مع أيّ رجل لا قبل ولادتها يسوع ولا بعدها، وأنّه لم يكن لها أولاد غير يسوع. تلك الحقيقة دافع عنها آباء الكنيسة، منذ ما قبل مجمع أفسس، وبنوع خاصّ القدّيس إيرونيموس والقدّيس أمبروسيوس في الغرب وقبلهما أوريجانيس في الشرق. وقد أجاب هؤلاء على بعض اعتراضات وردت من تفسير خاطئ لبعض نصوص العهد الجديد وأوضحوا معنى هذه الحقيقة على صعيد العقائد.
"حتى ولدت ابنها" (متّى 1: 25)، فولدت ابنها البكر (لو 2: 7)
ورد في إنجيل متّى أنّ يوسف، بعد أن تراءى له ملاك الرب وقال له ألاّ يخاف من أن يأخذ امرأته مريم لأنّ الذي حبل به فيها إنّما هو من الروح القدس، "لمّا نهض من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ، فأخذ امرأته ولم يعرفها حتّى ولدت ابنها فسمّاه يسوع" (متّى 1: 24- 25).
قد يعترض البعض: فقول الإنجيل "ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" يعني أنّ يوسف عرف مريم بعد ذلك.
على هذا الاعتراض نجيب مع التقليد الكنسي: استنادًا إلى مقاطع أخرى من الكتاب المقدّس، هذا التعبير هو توضيح فقط لما حدث قبل ولادة يسوع، أي إنّ يوسف لم يعرف مريم قبل ولادتها يسوع وأنّ يسوع إذن وُلد بشكل بتولي. ولكنّ هذا التعبير لا يعني مطلقًا أنّه عرفها بعد ذلك. ولنا مثل على هذا التعبير قول الكتاب المقدّس إنّ "ميكال ابنة شاول لم تلد ولدًا حتّى ماتت" (2 صم 6: 23). فهل يعني ذلك أنّها ولدت ولدًا بعد موتها؟.
أمّا لقب "البكر" الذي يُطلَق على يسوع (لو 2: 7) فلا يعني أنّ له إخوة أصغر منه. فالبكر، في مصطلح الناس ومصطلح الكتاب المقدّس، هو الولد الذي لم يولد قبله آخر، سواء وُلد بعده غيره أم لم يولد. ولذلك يسمّيه الكتاب تارة البكر وأخرى "فاتح رحم" على حدّ سواء. فضلاً عن أنّ الكتاب المقدّس واليهود كانوا يحرصون شديد الحرص على الاحتفاظ بهذه التسمية "لفاتح الرّحم"، حتى وإن لم يعقبه أخ أو إخوة، لأنّ الناموس الموسوي كان يفرض عليه واجبات خاصة تجاه الله: "إنّ كل ذكر فاتح رحم (أي بكر) يكون مقدَّسًا للربّ"، ولا بدّ من تقدمته للربّ (لو 2: 22- 23). ولذلك كان من الواجب أن يخضع يسوع لهذا الناموس فيقدّمه أبواه للربّ ويفتدياه بزوجي يمام أو فرخي حمام بحسب الشريعة.

إخوة يسوع وأخواته
يتكلّم العهد الجديد في مقاطع عدّة على إخوة يسوع وأخواته (متّى 12: 46؛ 13: 55؛ مر 6: 3؛ لو 8: 19؛ يو 2: 12؛ 7: 3- 5؛ أع 1: 14؛ غلا 1: 19). إنّ لفظتي "أخ" و"أخت" مستعملتان هنا من باب التوسّع على حسب العادة عند اليهود. فالكتاب المقدّس يدعو إخوة إبراهيم وابن أخيه لوطاً (تك 13: 8؛ 14: 14)، ولابان وابن أخيه يعقوب (تك 29: 15) وابني هرون وابني عمه عزّيئيل (أح 10: 4)، وكذلك بنات ألعازر وأبناء أخيه قيش (أح 23: 22). ثمّ إنّ "إخوة يسوع" يذكر لنا الإنجيل أسماءهم، وهم: يعقوب وموسى وسمعان ويهوذا (متّى 13: 55). والدليل على أنّ هؤلاء ليسوا إخوة بالطبيعة ليسوع ولا أولادًا من ثمّ لمريم أمّ يسوع، هو أنّ الإنجيل يذكر لنا أمّهم، وهي مريمٍ زوجة كليوبا (متّى 27: 56 "مريم أمّ يعقوب وموسى") التي يدعوها الإنجيل أيضا "مريم أخت مريم أمّ يسوع" (يو 12: 25). وفي هذه الجملة الأخيرة أيضاً يجب أن تؤخذ لفظة "أخت" بالمعنى الواسع، فإنّه لا يُعقَل أن تدعى فتاتان بالاسم عينه في العائلة. ثمّ إنّ يسوع وحده يدعى "ابن مريم" (مر 6: 3). وأخيرًا نراه وهو على الصليب يوصي الرسول يوحنّا بمريم أمّه، الأمر الذي لا يُفهَم لو كان لها أولاد غير يسوع. وقول يسوع: "هوذا ابنك" ينفي أن يكون لها غيره.
فإخوة يسوع، بحسب رأي ايرونيموس ومعظم التقليد الكنسي من بعده، هم إذن أقارب أدنون ليسوع، أولاد مريم نسيبة مريم أمّه.

البرهان اللاّهوتي
هناك برهان لاهوتي يستند إليه إيرونيموس وأمبروسيوس وأوريجانيس، لتأكيد بتوليّة مريم العذراء بعد ولادة يسوع. فيقولون: هل يُعقَل أنّ التي حملت في أحشائها ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، دون مباشرة رجل بل بقدرة الروح القدس، أن تراودها، بعد ذلك الاختبار الديني الفريد، إرادة العيش كسائر النساء ورغبة إنجاب أولاد آخرين؟ إنّ الله قد امتلك كل كيان مريم العذراء، فلا بدّ أن تكون قد كرّست لله ذاتها بكلّ قوى جسدها ونفسها وروحها. إنّ الذين يختبرون الله في اختبارات روحيّة خاصّة فيظهر لهم المسيح كما ظهر لبولس الرسول أو تظهر لهم مريم العذراء كما ظهرت لبرناديت في لورد وغيرها، أو النسّاك الذين يختبرون الاتّحاد بالله بعمقٍ، لا يعودون يشعرون بأيّ رغبة في الزواج، بل يسلكون طريق البتوليّة. فكم بالحريّ يمكننا تأكيد بتوليّة مريم العذراء بعد ولادتها يسوع وعلى أثر هذا الاتّحاد العميق بالله وهذا الاختبار الفريد في تاريخ البشر لقدرة الله تملأها وتبذر في أحشائها الحياة البشريّة؟
وهذا يقودنا إلى قداسة مريم العذراء.


4- مريم العذراء الفائقة القداسة


الكنيسة بأجمعها في الشرق والغرب تعلن قداسة مريم العذراء انطلاقًا من كونها "ممتلئة نعمة" ووالدة المسيح ابن الله. وتعلن أنّها "منزّهة عن كل عيب" وأنّها لم تقترف خطيئة. ويؤكّد التراث الكنسي في الشرق كما في الغرب أنّ الله قد أنعم عليها منذ الحبل بها في أحشاء أمّها القدّيسة حنّة بنعمة خاصّة قدّست طبيعتها منذ تكوينها. وللتعبير عن تلك القداسة أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة إيمانها "بالحبل بلا دنس"، أي بحبل القدّيسة حنّة بمريم العذراء دون وصمة الخطيئة الأصليّة، في حين ولا تزال الكنائس الأرثوذكسية ترفض تلك العقيدة في التعبير اللاهوتي الذي وردت فيه، على الرغم من اعترافها بما ورد في الكتاب المقدّس وفي تعاليم الآباء عن قداسة مريم العذراء التي تفوق بطهرها جميع الملائكة والبشر، والتي هي، في نظرها، "أكرم من الشيروبيم وأمجد بلا قياس من السيرافيم". سنتوسّع أوّلاً في التراث المشترك حول قداسة مريم العذراء، ثمّ نعالج الخلاف حول موضوع عقيدة "الحبل بلا دنس".

أ) "الممتلئة نعمة" في الكتاب المقدّس


تستند الكنيسة في إعلانها قداسة مريم العذراء إلى تحيّة الملاك جبرائيل: "السلام عليك يا ممتلئة نعمة الرب معك" (لو 1: 28). ذلك ما لفت إليه أوريجانيس فصرّح أنّ هذه التحيّة الجديدة فريدة لا مثيل لها البتة في تضاعيف الأسفار المقدّسة، إذ لم توجَّه قطّ إلى امرئ، إنّما خُصَّت بها مريم وحدها دون سواها. وتعني لفظة "ممتلئة نعمة" ( ) أنّ مريم كاملة البرارة وكاملة القداسة. والصيغة اليونانية تدلّ على الديمومة والثبات في ملء النعمة بمعزل عن الزمان وحدوده. ولو شاء الإنجيل المقدّس الدلالة على أنّ العذراء مريم صارت قدّيسة عندما حيّاها الملاك، ولم تكن قدّيسة من قبل، لا ستعمل صيغة أي المنعم عليها الآن. ولو أراد الدلالة على أنّها تبرّرت في وقت ما من أيّامها الماضية لاستعمل صيغة أي التي أنعم عليها سابقًا. أمّا اللفظة المستعملة فتدلّ على أنّ العذراء الطاهرة كانت، قبل تحيّة الملاك والبشارة، كاملة البرارة والقداسة: إنّها لم تصر قدّيسة آنذاّك بل كانت قدّيسة وكاملة القداسة. هذه الصيغة هي صيغة "الصفة المشبّهة" التي تدلّ على ثبوت الصفة لصاحبها بمعزل عن الزمان والمكان.

ب) قداسة مريم العذراء في كتابات الآباء


في القرون الخمسة الأولى
وهذا ما رآه آباء الكنيسة منذ القرون الأولى. وإليك بعض أقوالهم:
"إنّ الربّ بغير فساد، من حيث هو إنسان. لأنّه من شجرة كير فاسدة، أي من العذراء والروح القدس".
"إنّ المسيح الطاهر قد اقتنصته عذراء طاهرة".
"الطاهر يخرج بوجه طاهر من الأحشاء الطاهرة التي أوجدها هو نفسه طاهرة".
ويرى إيريناوس أنّ مريم وابنها هما حوّاء وآدم الجديدان اللذان يحملان نبل الجنس البشري. إنّهما الأوّلان، وإن ظهرا متأخّرين. فيسوع أتمّ آدم، ومريم أتمّت حوّاء. وكلاهما رأس البشرية الذي آتاها العودة إلى عدم فسادها الأوّل، وعمل الخلاص واحد اشترك فيه الابن والأُمّ معاً. و"المسيح أخذ من التي هي من آدم (أي من مريم) صورة الخليقة الأولى"، أي صورة آدم قبل الخطيئة. ومعلوم أنّ العذراء مريم لا تستطيع أن تعطيه تلك الصورة ما لم تكن هي نفسها حاصلة عليها.
ويشيد القدّيس أفرام السرياني بقداسة مريم العذراء، فهي التابوت المقدّس، والمرأة التي سحقت رأس إبليس، والطاهرة وحدها نفسًا وجسدًا، والكاملة القداسة، وإذ يقابل بينها وبين حوّاء يقول: "كلتاهما بريئتان، وكلتاهما قد صنعتا متشابهتين من كل وجه، ولكنّ إحداهما صارت من بعد سبب موتنا والأخرى سبب حياتنا". ويقول في موضع آخر: "في الحقيقة، أنت، يا ربّ، وأمّك جميلان وحدكما من كل وجه وعلى كل صعيد، إذ ليس فيك، يا ربّ، ولا وصمة وليس في أمّك دنس ما البتة".
وبعد "مجمع أفسس الذي أعلن مريم "والدة الإله"، راح الآباء يتبسّطون في هذه الكرامة وما تقتضيه من إنعامات خاصّة، ويفيضون في وصف مريم وينعتونها بكل ما من شأنه أن يؤيّد قداستها الفائقة.
يقول بروكلوس بطريرك القسطنطينية (+ 446): "مريم هي مقدس الوصمة من الخطيئة، وهيكل الله الأقدس، والقدّيسة جسدًا ونفسًا، والكرة السماويّة للخليقة الجديدة التي تحمل شمس العدل المشّع على الدوام"، "وقد صنعت من تربة طاهرة وكانت معدّة لأن تصير هيكلاً لله".
ونجد عند ثيودوتس أسقف أنكره (303) طائفة من التشابيه والأوصاف تدّل في جلاء على عصمة مريم من الخطيئة، منها قوله: "بدلاً من العذراء حوّاء وسيطة الموت، أقيمت عذراء ممتلئة نعمة لتعطينا الحياة، عذراء صنعت بطبيعة المرأة ولكن بدون خبث المرأة، عذراء بريئة، بدون وصمة، كليّة الطهر كاملة، منزّهة عن كلّ لوثة، قدّيسة نفسًا وجسدًا، نبتت كالزنبقة وسط الشوك، عذراء ملتحفة بالنعمة الإلهيّة كرداء: مفعمة النفس حكمةً إلهيّة، عروس الله بالقلب". وهي "المغمورة بالنور". به تلاشت كآبة حوّاء، وبها حوّاء افتديت إذ "من القدّيسة ولد ابن قدّوس، والكاملة ولدت الكامل، والتي تفوق الوصف ولد منها الذي يفوق الوصف. والعليّة ولد منها العليّ".
وللكاهن الأورشليمي هيزيكيوس تصريحات لا تقلّ بيانًا وقوّة، منها قوله: "إنّ في مريم أكمل جميع النساء، ولؤلؤة العذارى، والزينة السنيّة لطبيعتنا، ومجد التربة التي منها جبلنا. أنقذت حوّاء من خزيها وآدم من الوعيد الرازح تحته، سحقت شوكة الثعبان الجهنمي. إنّ دخان الشهوة لم يبلغ إليها ودودة الأهواء لم تنفذ قطّ إليها". وفي موضع آخر يقول: "هي الفرع المنزّه طبعًا من كل شائبة، وجذع يسّى المخضوضر على الدوام، وبستان الآب، وخميلة أطياب الروح بأجمعها، والسفينة التي كان الله مهندسها وربّانها وقائدها، وعدوّة الشيطان التي انتزعت منه ملكوته ودحرته في وهاد الدمار، وهي أجمل النساء طهرًا كما أنّ ابنها أجمل بني البشر".
وقد جاء في الرسالة المسندة إلى كهنة وشمامسة أخائية، في استشهاد القدّيس أندراوس، الشهادة القيّمة التالية: "بما أنّ الإنسان الأوّل الذي أدخل الموت إلى العالم بالمعصية كان قد جبل من تربة منزّهة عن كلّ لطخة، كان لا بدّ لابن الله المتأنّس أن يولد من عذراء بريئة من كلّ دنس ولطخة، لكي يجدّد الحياة الخالدةّ للبشر الذين خسروها بآدم".

من القرن السادس إلى القرن التاسع
في هذه الفترة أُنشئت أهمّ الأعياد المريميّة التي أتاحت للشعراء والمعلّمين ميدانًا فسيحًا للإفاضة في مدح العذراء وإشادة بقداستها.
فرومانوس المنشد، شاعر العذراء الملهم، يقول عن مريم إنّها "بريئة بن كل دنس"، "زهرة عدم الفساد"، "بهجة النساء لأنّها وحدها ممتلئة بالنعمة، كاملة الجمال والطهر والقداسة"
وصفرونيوس بطريرك أورشليم (+ 638) يتغنّى بالفادي الذي "ولج أحشاء مريم المتألقة طهرًا، المعصومة من كل لوثة في النفس والجسد والعقل، البريئة من كل دنس". ولئن كان "القدّيسون الّذين ظهروا قبلها كثيرين، فما من أحد فيهم كان ممتلئًا نعمة ولا أحد كامل القداسة مثلها، ولا أحد تطهّر من قبل مثلها. ويقوم هذا الامتياز بأنّ مريم تطهّرت مقدَّمًا، وأبناء آدم الآخرين تطهّروا عاديًّا، والفرق بين تطهير هؤلاء وتلك هو أنّهم هم تطهّروا بعد الوصمة، وأمّا هي فقبل الوصمة".
ويوالي القدّيس أندراوس الكريتي (+ 740) العزف على الوتر عينه، فيؤكّد قداسة مريم العذراء منذ تكوينها في أحشاء أمّها: "إنّ مريم هي ابنة الله، لا لأنّها ابنة الموعد وثمرة قدرة الله تُخصب عقم الشيخوخة وحسب، بل أيضاً وخصوصاً لأنّها الخزف يجبله الفنّان الإلهي جبلة إلهيّة، والخميرة المقدّسة سرت فيها الحياة الإلهيّة"، "وهي باكورة طبيعتنا، بها تستعيد البشريّة جبلتها الأولى وامتيازاتها القديمة. وبها يبدأ تجديد طبيعتنا، والعالم العتيق يتقبّل باكورة الخليقة الجّدَيدة"، لأنّ "جسدها تربة اعتجنها الله بنفسه، ولأنّها الصورة المماثلة الجمال الأوّل".
والقدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733) يهتف بلسان يواكيم وحنّة في عيد التقدمة: "تقبّل أيّها السيّد تلك التي أعطيتناها... تقبّل تلك التي اصطفيتها واخترتها من قبل وقدّستها، تلك التي انتزعتها كالزنبقة بين الشوك من حضيض حقارتنا". ويوم قُدّمت إلى الهيكل "قُدّمت إلى الرب كهبة مقدّسة متألّقة بالجمال الإلهي"، لا لكي يقدّسها الهيكل بل لكي تقدّس هي قدس الأقداس.
والقدّيس يوحنا الدمشقي (+ 749) يعلن أنّ مريم قدّيسة طاهرة البشارة "إذ إنّها حرصت على نقاوة النفس والجسد كما يليق بمن كانت معدّة لتتقبّل الله في أحشائها." واعتصامها بالقداسة مكنّها أن تصير هيكلاً مقدّسًا رائعًا جديرًا بالله العليّ". ومريم طاهرة منذ الحبل بها: "يا لغبطة يواكيم الذي ألقى زرعًا طاهرًا! ويا لعظمة حنّة التي نمت في أحشائها شيئًا فشيئًا ابنة كاملة القداسة". ويؤكّد أنّ "سهام العدوّ الناريّة لم تقو على النفاذ إليها"، "ولا الشهوة وجدت إليها سبيلاً".
ويوحنّا أسقف أوبي (+ 750) يعلن: "إنّ الخالق بنفسه اصطنع من التراب القديم سماء جديدة، وعرشًا يتحدّى ألسنة اللّهب... فتهلّلي أيّتها الأرض لأنّ عدوّ طبيعتنا قد قُهر... وقصر الملك السماوي قد شُيّد بدون مساعدة البشر".
ويقول القدّيس ثاوذورس الأستودي (+ 826): "إنّ مريم أرض لم تنبت فيها البتّة أشواك الخطيئة... أرض لم تطلق عليها اللعنة البتّة على مثال الأرض الأولى الخصيبة بالشوك... والعود الغير الفاسد الذي لم يجد إليه دود الفساد منفذًا".
وكذلك يقول القدّيس أوغسطينوس: "إكرامًا للربّ، أرفض أيّ تساؤل حول إمكان وقوع القدّيسة مريم العذراء في الخطيئة".
ويقول أيضاً يعقوب السروجي (+ 521): "لم تتدنّس مريم قطّ بشهوات رديئة، بل سلكت منذ طفولتها طريق الحقّ باستقامة، بغير خطأ أو تعثّر".
من هذه الأقوال كلّها نستنتج أنّ الآباء في معظمهم اعتقدوا بأنّ مريم لم تقترف أيّ إثم ولم تقع في الخطيئة، لأنّ نعمة الله ملأتها منذ تكوينها.
واستنادا إلى هذا التراث الواسع حدّدت الكنيسة الكاثوليكية عقيدة "الحبل بلا دنس". ماذا تعني هذه العقيدة؟ وما هو موقف الكنائس الأرثوذكسية منها؟


ج) قداسة مريم العذراء وعقيدة "الحبل بلا دنس"


تلك العقيدة حدّدها في 8 كانون الأوّل سنة 1854 البابا بيوس التاسع. قال:
"إنّنا نعلن ونحدّد أنّ التعليم القائل بأنّ الطوباويّة مريم العذراء قد عُصمت منذ اللحظة الأولى للحبل بها من كل دنس الخطيئة الأصليّة، وذلك بنعمة وإنعام فريدين من الله القدير، ونظرًا إلى استحقاقات يسوع المسيح مخلّص الجنس البشري، هو تعليم موحى به من الله، وواجب من ثمّ على جميع المؤمنين الإيمان به إيمانًا ثابتًا لا يتزعزع".
هذا التحديد لا يعني أنّ مريم العذراء قد حبلت بها أمّها حنّة بقدرة الروح القدس دون مباشرة رجل، كما حبلت هي بابنها يسوع. فالقدّيسة حنّة قد حبلت بمريم كما تحبل سائر النساء. بيد أنّ العذراء -وهذا هو مضمون العقيدة- "وإن حبلت بها أمّها على طريقة البشر، فإنّ نفسها الشريفة كانت حاصلة على نعمة القداسة، ومن ثمّ خالية من كل خطيئة، منذ أن خلقها الله وأتحدها بالجسد في أحشاء حنّة. ولم تحتمل العذراء الفائقة الطهر على هذا الإنعام الفريد إلاّ باستحقاقات ابنها فادي البشر. ومن ثمّ فهي مثلنا مفتداة بدم كريم. بيد أنّ نعمة الفداء لم تكن لها نعمة تبرير من خطيئة تغشى نفسها الطاهرة، بل نعمة مناعة وعصمة تقي تلك النفس الكريمة من التلوّث بجريرة الأبوين الأوّلين. ولئن تكن العذراء مريم لم تُعتَق ولم تُعصَم في الوقت نفسه بن ملحقات الخطيئة الجدّية كالعذاب والموت، فما ذلك إلاّ لأنّ مصيرها كان مرتبطاً ارتباطاً صميمًا، في تصميم الله الأزلي، بمصير ابنها الإلهي: إنّها حوّاء الجديدة تسهم مع آدم الجديد في ولادة البشرية إلى حياة جديدة على أساس العذاب وإراقة الدم الزكي".

الخطيئة الأصليّة في الفكر اللاّهوتي الغربي
لفهم العقيدة القائلة "إنّ مريم عُصمت منذ اللحظة الأولى للحبل بها من كلّ دنس الخطيئة الأصلية"، لا بدّ لنا من العودة إلى مفهوم الخطيئة الأصليّة في اللاّهوت الغربي. فهذه العقيدة قد أعلنتها الكنيسة الكاثوييكيّة في إطار لاهوت خاص يعود إلى القدّيس أوغسطينوس حول الخطيئة الأصليّة ونتائجها في البشر وضرورة الخلاص بالمسيح.
توسّع القدّيس أوغسطينوس في موضوع الخطيئة الأصليّة في معرض دفاعه عن ضرورة الخلاص بالمسيح ضدّ بيلاجيوس. ففي حين كان بيلاجيوس يدّعي أنّ الإنسان يستطيع بقواه الخاصّة الحصول على الخلاص، أكّد أوغسطينوس ضرورة الخلاص بالمسيح، مرتكزًا على فساد الطبيعة البشريّة بعد خطيئة آدم وحوّاء في الفردوس. فهذه الخطيئة تنتقل بالوراثة إلى كل إنسان يولد من نسل آدم. وينتج أنّ الإنسان يولد خاطئًا، بحيث إنّه إن لم يعتمد لا يمكنه الحصول على الخلاص. كما ينتج أيضاً من وراثة الخطيئة الأصليّة انحراف إرادة الإنسان واستعبادها للشهوة. فكلّ إنسان يولد إذن خاطئًا ومستعبَدًا للشهوة. ويضيف اغسطينوس نتيجة ثالثة هي أنّ الإنسان، بخطيئة آدم وحوّاء، صار مائتًا وفقد، مع حياة النعمة واستقامة الإرادة، الخلود (أي عدم الموت) الذي كان الله قد زيّنه به عندما خلقه.
أمّا بشأن مريم العذراء، فيرى أوغسطينوس أنّ مريم العذراء قد تحرّرت كلّيًّا، بنعمة خاصّة، من الخطيئة الأصليّة، ولا سيّما من الاستعباد للشهوة والخطيئة. وقد منحها الله هذه النعمة عندما ولدت. ولا يوضح أوغسطينوس أيّ شيء بالنسبة إلى عدم الموت في تلك النعمة الخاصّة.
وتساءل اللاهوت في الغرب: إذا كان المسيح وحده المخلّص والفادي، فكيف يكون مخلّص أمّه إن هي حُرّرت من الخطيئة الأصليّة قبل الفداء؟ وكان جواب دونس سكوت (Duns Scott) اللاّهوتي الفرنسيسكاني (1260- 1308): هناك طريقتان تحقّق بهما فداء البشر: الطريقة العامّة التي تشمل كلّ البشر، والطريقة الاستثنائية التي تميّزت بها مريم العذراء فافتُديت استباقًا لاستحقاقات ابنها يسوع المسيح. وهذا التحليل اللاّهوتي هو الذي استخدّمه البابا بيوس التاسع في تحديده عقيدة الحبل بلا دنس التي تعلن أمرين متكاملين: 1- حُفظت مريم تمامًا من كلّ دنس الخطيئة الأصليّة،

2- وذلك بنعمة من الله وبفضل استحقاقات سيّدنا يسوع المسيح الذي هو وحده مخلّص الجنس البشري، ولا خلاص بغيره.
موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة من عقيدة الحبل بلا دنس
لقد رفضت الكنيسة الأرثوذكسية عقيدة الحبل بلا دنس كما حدّدها البابا بيوس التاسع، وليس ذلك إنكارًا منها لقداسة مريم العذراء، بل لأنّ نظرتها إلى الخطيئة الأصليّة وعواقبها في الإنسان تختلف عن نظرة الكنيسة الغربيّة.
فلا وجود أوّلاً لعبارة "الخطيئة الأصليّة" في الكنيسة الشرقيّة التي تتكلّم فقط عن خطيئة الأبوين الأوّلين، عن خطيئة آدم وحوّاء. أمّا بشأن نتائج تلك الخطيئة، فيرفض الشرق أن يكون كلّ الناس قد خطئوا خطيئة فعليّة "في آدم"، وأن يولدوا خطأة بالفعل. فآدم وحوّاء وحدهما خطئا "خطيئة فعليّة"، أمّا نسلهما فيرث فقط حالة من الانحطاط تستلزم خلاص المسيح والولادة الجديدة. وتلك الحالة، في نظر كنيسة الشرق، شوّهت صورة الله في الإنسان، ولكنّها لم تُزِلها. لذلك يستطيع الإنسان، وهو في حالة الانحطاط التي ورثها من آدم وحوّاء، أن يسهم مع النعمة في خلاصه. وقد بقي له القدر الكافي من الحريّة ليقبل قبولا شخصيًّا وواعيًا نعمة الله وخلاص المسيح. وإلى جانب تلك الحالة، صار الإنسان مائتًا. تلك هي النتيجة الثانية التي يعتبر الشرق أنّها نجمت عن خطيئة آدم وحوّاء.
فعقيدة "الحبل بلا دنس" لا ترى الكنيسة الأرثوذكسية ضرورتها. فإذا عدنا إلى العواقب الثلاث التي نتجت عن خطيئة آدم وحوّاء حسب اللاّهوت الكاثوليكي، ترى الكنيسة الأرثوذكسية جوابًا عليها دون اللجوء إلى عقيدة "الحبل بلا دنس":
- فالعاقبة الأولى: "أن يولد كل إنسان خاطئًا بالفعل"، لا وجود لها، في نظر الكنيسة الأرثوذكسيّة، عند أيّ من البشر.
- والعاقبة الثالثة: "أنّ الإنسان صار مائتًا"، لم تُعطِ عقيدةُ الحبل بلا دنس جوابًا عنها. فمريم العذراء خضعت للموت كما يخضع له سائر البشر، وتحمّلت مع سائر البشر عاقبة خطيئة آدم وحوّاء.
- تبقى العاقبة الثانية: "أن يرث الإنسان طبيعة مجروحة تضعف بهاء صورة الله فيه، دون إزالة حرّيته". فالله قد أنعم على مريم العذراء بملء النعمة والقداسة، وقد تجاوبت مريم مع هذه النعمة، فلم تقترف أيّة خطيئة وبقيت "منزّهة عن كل عيب"، و"كاملة القداسة". ولكنّ هذه النعمة لا تعني، في نظر الكنيسة الأرثوذكسية، عصمة من الخطيئة الأصليّة. لأنّ مثل هذه العصمة، حسب قول أحد الأرثوذكسيّين، "تحرم مريم العذراء من صلتها الصميمة العميقة بالإنسانية"، وتسلب الحرّية الإنسانية كلّ قيمتها، وتقطع "الاستمرارية مع قداسة العهد القديم، تلك القداسة التي تجمّعت من جيل إلى جيل لتكتمل أخيرًا بشخص مريم العذراء الكلّية الطهارة التي بطاعتها المتواضعة خطت الخطوة الأخيرة التي كان على الإنسان أن يخطوها لكي يصبح عمل خلاصنا ممكنًا. فعقيدة الحبل بلا دنس، كما عبّرت عنها كنيسة رومية، تقطع هذه الاستمراريّة المقدّسة "لأجداد الإله الأبرار" التي تجد نهايتها في "هوذا أنا أمة الربّ".
ثم "إنّ التحديد: "امتياز معطى للعذراء توقّعًا للاستحقاقات التي سيكتسبها ابنها"، يأباه فكر الارثوذكسية التي لا تستطيع قبول هذا الميل الحقوقي في التفكير، المبالغ به، والذي يطمس الطابع الحقيقي لعملية فدائنا ولا يرى فيها سوى عملية "استحقاق" مبهم للمسيح، منسوب إلى كائن بشري، قبل آلام وقيامة المسيح وقبل تجسّده أيضاً، وذلك بقرار خاص من الله".
في هذا الموضوع يوجز أحد أساتذة اللاّهوت الأرثوذكسيّين موقفه فيقول:
* المنطلق اللاّهوتي: لقد خلق الإنسان على صورة الله. والخطيئة لم تدمّر تلك الصورة فيه. أمّا المثال فهو الدرجة التي يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى تحقيق الصورة الإلهيّة فيه. المسيح وحده فيه ملء الروح القدس (يو 3: 34). أمّا الإنسان، فهناك حالات يستطيع فيها، باختيار من الله، وبمؤازرة النعمة وتجاوبه معها، الوصول إلى أعلى درجات القداسة وتحقيق صورة الله فيه على وجه شبه كامل.
* المنطلق المنهجي: في اللاّهوت كما في سائر الميادين، يجب الانطلاق ممّا نعرف وليس ممّا نجهل. فالمعطيات المعروفة هي موضوع الوحي الإلهي، وتستند إلى كلمة الله، ويثبّتها التقليد، أي خبرة الكنيسة. والحال أنّ هناك أسرارًا، ليس فقط إلهيّة، بل أيضاً إنسانيّة وطبيعيّة، نجهل طريقة تحقيقها، ومنها الحبل وما يجري في نفس الكائن البشري الذي يُحبَل به.
* من هذين المنطلقين، يستنتج الكاتب:
- يذكر الكتاب المقدّس حالات اختيار بعض الرسل والأنبياء "من أحشاء أمّهم"، على مثال شمشون (قض 13: 7)، إرميا (إر 1: 5)، عبد الربّ (أش 49: 1)، يوحنّا المعمدان (لو 1: 15)، بولس الرسول (غلا 1: 15). في هذه الحالات تجتمع تقوى الوالدين ونعمة الربّ التي تزيل في بعض الأحيان عقم الأمّ. والدور الكبير في معظم الحالات هو لإرادة الله
- هناك حالات خاصّة ظهرت فيها قداسة بعض المختارين منذ طفولتهم. وهذه الحالات أيضاً هي من تصميم الله.
* ويخلص المؤلّف إلى موضوع الحبل بمريم العذراء والدة الإله، فيقول: "إذا كانت عذراء الناصرة قد تمّ اختيارها لتكون الممتلئة نعمة، أمةَ الربّ، أمّ ربي، المرأة، حوّاء الجديدة، أمّ الأحياء، فلا بدّ من أن يكون الحبل بها وولادتها من عمل العناية الإلهيّة وتصميم الخلاص. ولقد كانا دون شكّ موضوع نعمة غزيرة انسكبت فيهما. هل جعلت النعمة من مريم كائنًا منفردًا؟ لقد جعلت منها تلك التي كانت ولا تزال ممتلئة نعمة، تلك التي نالت حظوة عند الله، المباركة في النساء (لوقا 1)، لا تتميّز عن سائر النساء إلاّ من خلال أعياد 9 كانون الأوّل و8 أيلول. والتقوى الشعبيّة نسجت كتبًا منحولة. وما سوى ذلك صمت".
من هذه المقارنة بين النظرتين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة نخلص إلى أنّ الخلاف بين الكنيستين ليس خلافًا على مضمون الإيمان بل على طريقة التعبير عن هذا الإيمان. فكلتا الكنيستين تؤمن بأنّ مريم العذراء فائقة القداسة، وبأنّ نعمة الله التي امتلأت منها لم تُزِل حرّيتها وتجاوبها مع النعمة، ولم تعزلها عن فداء المسيح. ولكن في حين عبّرت الكنيسة الكاثوليكيّة عن إيمانها بقداسة مريم بعقيدة الحبل بلا دنس وبعصمة مريم من الخطيئة الأصليّة، رفضت الكنيسة الأرثوذكسية هذا التحديد لأنّ الكتاب المقدّس لا يتضمّنه بوجه بيّن صريح ولأنّه يخالف طريقة تعبيرها عن خطيئة آدم وحوّاء وعن عواقبها في نسلهما. إلاّ أنّها لا تقلّ عن الكنيسة الكاثوليكيّة بإعلان قداسة مريم العذراء، كما فعل الآباء الشرقيّون الذين أفاضوا بتعداد الألقاب التي تدلّ على قداسة مريم، كما رأينا. ففي شخصها عادت "الجبلة الأولى الإلهيّة المقدّسة"، و"التربة المنزّهة عن كل لطخة"، و"التربة الطاهرة التي لم يمسّها الشيطان"، و"الشجرة غير الفاسدة"، و"المرأة البريئة كحوّاء قبل الخطيئة". إنّنا لا نرى أيّ تناقض، بل هناك انسجام تامّ بين الإيمان الذي أوحى تلك التعابير والإيمان الذي عبّرت عنه الكنيسة الكاثوليكيّة، وإن من خلال لاهوت مختلف، في إعلانها عقيدة عصمة العذراء مريم من الخطيئة الأصليّة.


د) قداسة مريم العذراء في التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص


نودّ، في ختام كلامنا على قداسة مريم العذراء، أن نتجاوز النقاش المحدود بين الكاثوليك والأرثوذكس حول عقيدة "الحبل بلا دنس"، لننظر إلى الموضوع في مجمل التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص. في هذه النظرة نخرج من حدود لاهوت محورُ تفكيره "الخطيئة الأصليّة"، بحيث لا يرى في الفداء إلاّ عمل خلاص من تلك الخطيئة، ويعتبر هذا الفداء قد تمّ في لحظة من الزمن يوم الجمعة العظيمة، فيروح يتساءل: كيف يمكن للعذراء أن يتحقّق فيها الفداء قبل صليب المسيح؟
التصميم الإلهي للإنسان
يقول القدّيس بولس: "في المسيح اختارنا الله عن محبّة من قبل إنشاء العالم، لنكون قدّيسين، وبغير عيب أمامه. وسبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح" (أف 1: 4- 5).
تصميم الله هذا الذي يدعو بولس "سرّ مشيئته" (أف 1: 9)، أي الذي يعبّر عن إرادة الله الأزليّة، قد تحقّق في الزمن في المسيح الإنسان، في عمق كيانه، موجّه نحو الله. ولن يحقّق ذاته إلاّ بالقداسة أي بالاتّحاد بالله. وهذا ما تعنيه صورة التبّني، كما جاء في قول بولس: "أن نكون له أبناء"، مضيفًا: "بيسوع المسيح" الذي هو ابن الله منذ الأزل، "المولود قبل كل خلق، الذي فيه خُلق جميع ما في السماوات وما على الأرض... الذي به وإليه خُلق كل شيء" (كو 1: 15- 16). إنّ صورة الإنسان الكامل المخلّص نجدها في شخص ابن الله الأزلي. وهدف التجسّد هو ظهور مجد ابن الله، حسب قول السيّد المسيح في صلاته الأخيرة قبل موته: "فالآن، أيّها الآب، مجّدني أنت عندك بالمجد الذي كان لي لديك من قبل كون العالم" (يو 17: 5)، وذلك في سبيل اشتراك الناس في هذا المجد. هدف التجسّد هو تأليه الإنسان. وهذا معنى الخلاص الذي يذكره قانون الإيمان هدفًا للتجسّد: "الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد...". هدف الخلق والخلاص "أن يكون الله كلاًّ في الكل" (1 كور 15: 28).

اختيار مريم العذراء
مريم العذراء هي جزء من هذا التصميم الإلهي. إنّها الباب الذي به دخل المسيح العالم. وقد رأت الكنيسة في تحيّة الملاك لها "ممتلئة نعمة" إشارة إلى أنّ تصميم الله قد تحقّق أوّلاً فيها. وتأكيد التراث الشرقي أنّها "المرأة المنزّهة كحوّاء قبل الخطيئة"، وإعلان الكنيسة الكاثوليكيّة "عصمتها من الخطيئة الأصليّة"، اعتراف بأنّ الله غير مقيّد بخطيئة الإنسان. فالتجسّد ليس محاولة يائسة قرّرها الله بعد خطيئة الإنسان، إنّما هو تصميم الله الأزلي وتعبير عن فيض جوده. وقداسة مريم العذراء تندرج في إطار جود الله وتنسجم مع تصميمه الذي أرادنا به "أن نكون قدّيسين وبغير عيب أمامه" (أف 1: 4).
إنّ الفداء لم يتحقّق لمريم قبل الصليب، بل باختيار الله لها لتكون أمًّا لابنه. فالاختيار والتقديس هما عند الله عمل واحد ويتحقّقان معًا. إنّ الله اختار مريم، كما يقول قانون المدايح، "صدفة صبغت من دمائها أرجوانًا إلهيًّا لملك الأكوان" (الأوذية الرابعة، 3)، وأعدّها طاهرة ليسكن في أحشائها" (نشيد المدايح، البيت 19). لقد اتّخذ السيّد المسيح من أمّه الطاهرة إنسانيّة طاهرة مقدّسة، الإنسانية الحقيقيّة الموافقة لإرادة الله منذ الأزل.
أمّا بشأن الخطيئة الأصليّة، فإذا كان اللاهوت المعاصر لا يرى فيها خطيئة رجل واحد اسمه آدم وامرأة اسمها حوّاء، بل خطيئة كلّ إنسان منذ الإنسان الأوّل، فالقول إنّ مريم حُبل بها معصومة عن الخطيئة الأصليّة لا يعني سوى أنّ مريم العذراء قد ملأها الله بنعمته وقدّسها بحيث يمكن القول إنّها تمثّل صورة الإنسان كما يريده الله منذ الأزل. وهذا ما أعلنته الكنيسة منذ القرون الأولى في الشرق كما في الغرب.
وملء النعمة الذي نالته مريم العذراء لا ينفي تجاوب حرّيتها مع دعوة الله. فالنعمة لا تزيل الحرية. وهذا ما يقوله نقولاوس كاباسيلاس، وهو للاهوتي بيزنطي من القرن الرابع عشر، في عظة له حول البشارة:
"لم يكن التجسّد عمل الآب وكلمته وروحه فقط، ولكنّه أيضاً فعل إرادة العذراء وإيمانها. لولا موافقة الكلّية الطهارة ولولا مؤازرة إيمانها، لكان هذا التدبير مستحيلاً بقدر استحالته لو لم يتدخّل الله نفسه في أقانيمه الثلاثة. فابن الله لم يتّخذها أمًّا له ولم يتّخذ منها الجسد الذي قدّمته له إلاّ بعد أن أعدّها لذلك وحصل على قبولها. وكما تجسّد هو بملء إرادته هكذا أراد أن تلده أمّه بحرّية وبملء إرادتها".
ما يقوله كاباسيلاس عن موقف مريم العذراء في حدث البشارة يصحّ أيضاً بالنسبة إلى كلّ أحداث حياتها: إنّها مختارة، ولكنّها أيضاً مؤمنة. والإيمان لا وجود له دون وعي الإرادة والتزام الحرّية: وهذا ما يجعلها قريبة منّا في مسيرة إيماننا. وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم تفسير بعض الآباء، من أمثال باسيليوس الكبير ويوحنّا الذهبيّ الفم وغريغوريوس النزينزي وكيرلّس الإسكندري، "للسيف الذي جاز في نفس العذراء"، حسب نبوءة سمعان الشيخ (لو 1: 35)، بأنّه الشكّ الذي تملّكها، عند قدمي الصليب، بألوهيّة ابنها. إنّ مريم قد جاهدت بإرادتها ونمت في الإيمان. ونعمة الله التي ملأتها وجدت فيها نفسًا مستعدّة وقلبًا منفتحًا، بحيث لم تقترف خطيئة وبقيت المنزّهة عن كل عيب والفائقة القداسة.


5- مريم العذراء الممجّدة في السماء

أ) عقيدة انتقال مريم العذراء في الكنيسة الكاثوليكيّة


في الأوّل من أيّار عام 1946 سأل البابا بيوس الثاني عشر أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم كلّه: هل يؤمن المسيحيّون في الأبرشيات التي يرعونها بانتقال مريم العذراء إلى السماء بجسدها ونفسها؟ فكان شبه إجماع حول وجود مثل هذا الإيمان لدى الأساقفة واللاهوتيّين وسائر المؤمنين من الشعب المسيحي. وفي الأوّل من تشرين الأوّل عام 1950، أعلن البابا هذا الانتقال عقيدة إيمانيّة. فيرسم أوّلاً لوحة لتاريخ هذا الاعتقاد منذ القرن السادس، ثمّ يبيّن كيف وعت الكنيسة إيمانها بهذا الموضوع، وكيف استخلصت هذا الإيمان من معطيات الكتاب المقدّس، ويقول:
"إنّ هذه البراهين كلّها والاعتبارات التي نقرأها لدى الآباء القدّيسين واللاهوتيّين تستند إلى الكتاب المقدّس كأساس أخير لها. فالكتاب المقدّس يرينا والدة الإله متّحدة اتحادًا وثيقًا بابنها الإلهي ومشاركة إيّاه على الدوام مصيره. فيبدو من ثمّ من المحال أنّ التي حبلت بالسيّد المسيح وولدته وغذّته بلبنها وحملته على ذراعيها وضمّته إلى صدرها قد انفصلت عنه بعد حياتها على هذه الأرض، إن لم نقل بنفسها، فبجسدها. فبما أنّ فادينا هو ابن مريم، لما يكن باستطاعته، هو الخاضع خضوعًا تامًّا للشريعة الإلهيّة، ألاّ يؤدّي الإكرام ليس فقط إلي الآب الأزلي بل أيضاً إلى أمّه المجبوّبة. وبما أنّه كان يقدر أن يصنع لها هذا الإكرام فيحفظها من فساد الموت، فيجب الإيمان بأنّه صّنعه لها.
"ويجب بنوع خاص أن نتذكّر أنّ آباء الكنيسة، منذ القرن الثاني، رأوا في مريم العذراء حوّاء الجديدة، خاضعة دون شكّ لآدم الجديد، لكن متّحدة به اتّحادًا وثيقًا، في العراك ضد العدوّ الجهنّمي، هذا العراك الذي سبق سفر التكوين (تك 3: 15) فبشّر بأنّه سوف ينتهي بالنصر الكامل على الخطيئة والموت اللّذين يذكرهما دومًا رسول الأمم متّحدين (رو 5: 6؛ 1 كو 15: 21- 26، 54- 57). لذلك، فكما أنّ قيامة المسيح المجيدة كانت جزءًا أساسيًّا من هذا الانتصار وآخر مغانمه، كذلك كان يجب أن ينتهي العراك الذي قامت به مريم العذراء بالاتّحاد مع ابنها بتمجيد جسدها العذري، حسب قول الرسول نفسه: "ومتى لبس هذا الجسد الفاسد عدم الفساد، ولبس هذا الجسد المائت عدم الموت، فحينئذ يتمّ القول الذي كتب: لقد ابتُلع الموت في الغلبة" (1 كو 15: 54).
"إن والدة الإله السامية المقام، المتّحدة اتّحادًا سريًّا بيسوع المسيح "في قرار الاختيار الواحد عينه الذي مسبق الله فاتّخذه"، المنزّهة عن العيب في حبلها، العذراء الكلّية الطهارة في أمومتها الإلهيّة، الرفيقة السخيّة للفادي الإلهي الذي أحرز انتصارًا شاملاً على الخطيئة ونتائجها، قد حصلت أخيرًا على هذا التتويج الفائق لامتيازاتها، فحُفظت من فساد القبر، وعلى غرار ابنها، بعد أن غلبت الموت، رُفعت بالجسد والنفس إلى المجد في أعلى السماوات، لتتألّق فيها كملكة على يمين ابنها، ملك الدهور الأزلي (2 تي 1: 17).
"إنّ الكنيسة الجامعة التي فيها يحيا روح الحقّ الذي يقودها لتصل إلى معرفة الحقائق الموحاة، قد أعلنت إيمانها بطرق متنوّعة على مدى الأجيال. وأساقفة العالم يطلبون باتّفاق شبه تامّ أن تُعلَن كعقيدة إيمان إلهي وكاثوليكي حقيقةُ انتقال الطوباويّة مريم العذراء إلى السماء بجسدها، تلك الحقيقة التي تستند إلى الكتاب المقدس، المغروسة في قلوب المؤمنين، والمعلَنة منذ القرون الأولى في عبادة الكنيسة، والمفسَّرة والمعروضة بشكل رائع في أعمال اللاهوتيّين وعلمهم وحكمتهم. لهذه الأسباب نعتقد أنّه قد أتى الزمن الذي حدّدته مقاصد العناية الإلهيّة لأن نعلن رسميًّا هذا الامتياز الفائق الذي تتمتّع به الطوباويّة مريم العذراء...
"فبعد أن وجّهنا إلى الله صلوات ملحّة، والتمسنا نور روح الحقّ، لمجد الله ألقدير الذي أغدق بسخاء عطفه الخاص على مريم العذراء، وإكرامًا لابنه، ملك الدهور الحيّ قاهر الخطيئة والموت، وزيادة في مجد والدته السامية المقام، وفي سبيل الفرح والابتهاج في الكنيسة جمعاء، بسلطان ربّنا يسوع المسيح، والرسولين بطرس وبولس، وبسلطاننا الخاصّ نصرّح ونعلن ونحدّد كعقيدة أوحاها الله أنّ مريم والدة الإله المنزّهة عن العيب والدائمة البتوليّة، بعد أن أنهت مسيرة حياتها على الأرض، رُفعت بالنفس والجسد الى المجد السماوي".
بهذه التعابير أعلن البابا عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء بنفسها وجسدها، مؤكّدًا أنّه لا يضيف شيئًا، في إعلانه هذه العقيدة، إلى إيمان الكنيسة، بل يعبّر بشكل واضح عن هذا الإيمان الذي يعود إلى القرون الأولى للمسيحيّة. كيف يظهر هذا الإيمان في كتابات الآباء وفي عبادة الكنيسة؟


ب) انتقال مريم العذراء في كتابات الآباء


لقد أورد القدّيس يوحنّا الدمشقي، في عظته الثانية عن رقاد السيّدة، تقليدًا مستمَدًّا من كتاب "التاريخ الأوثيمي" المنحول، مفاده أنّ الرسل الأطهار جُذبوا بلحظة، ساعة رقاد السيّدة، وأتوا من كل الجهات التي كانوا يبشّرون فيها لأجل خلاص العالم، وارتقوا السحب بإشارة إلهيّة، ووفدوا على مقام البتول. ولمّا بلغوا إليها ظهر المسيح ابنها، فأودعت نفسها الطاهرة بين يديه. أمّا جسدها الذي حلّ فيه ابن الله، فشيّعه الرسل ومن معهم بكل إجلال ودفنوه في الجسمانية. ولمّا انقضى اليوم الثالث فتح الرسل الحاضرون نعش البتول نزولاً عند رغبة الرسول توما الذي لم يكن معهم، فلم يجدوا الجسد الكريم. فأخذتهم الدهشة والعجب... فاستنتجوا من الحادث أنّ الكلمة الأزلي الذي تنازل وأخذ جسدًا من أحشائها النقيّة، وحفظ بتوليّتها سالمة بعد ولادته منها، أراد أيضاً أن يكرّم جسدها البتولي والبريء من الدنس ويقيه من الفساد والانحلال وينقله إلى دار الخلود قبل القيامة العامّة. ويضيف الإنجيل المنحول أنّ تيموثاوس أوّل أسقف على أفسس، وديونيسيوس الأريوباجي وإياروثاوس أسقف أثينا حضروا مع الرسل أمام نعش والدة الإله. وقد استمرّ هذا التقليد في الفن الإيقونوغرافي البيزنطي الذي يمثّل رقاد السيّدة على الشكل المذكور أعلاه: العذراء مسجّاة على فراش الموت يحيط بها الرسل، والسيّد المسيح يتقبّل نفسها الطاهرة ترمز إليها طفلة صغيرة يحملها على ذراعيه.
إنّ هذا التقليد لا يرتكز على حدث تاريخي، بل يعبّر بشكل روائي عن إيمان الكنيسة الأولى بأنّ ابن الله الذي اتّخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنًا حقًّا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمل نعمته عليها، فصان جسده ها من فساد القبر ونقله إلى المجد السماوي. وهذا الايمان لا يستند إلى نصوص كتابيّة مباشرة بل إلى تحليل لاهوتي، يعتبر انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي نتيجة ضرورية لأمومتها الإلهيّة. فابن الله صار ابن مريم، وجسد كليهما واحد. وحيث يكون جسد الابن هناك جسد أمّه أيضاً. وكما أقام الله جسد ابنه ولم يتركه "يرى الفساد" (راجع خطبة بطرس الأولى في أع 2: 22- 32)، كذلك أقام الابن جسد أمّه، ذلك الهيكل الطاهر الذي قدّسه الروح القدس وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر وقد اتّخذ منه دمه ولحمه، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر.
وهذا التحليل اللاهوتي نجده لدى كثير من الآباء. يقول القدّيس أندراوس الكريتي (+ 767): "من اللائق أن يدبّر ابن الله مصير والدته بحسب مصيره الخاصّ". ويقول جرمانوس بطريرك القسطنطينية (+ 733): "كيف يحوّلكِ الموت الى وماد وتراب، أنتِ التي، بتجسّد ابنك، أنقذت الإنسان من فساد الموت؟" والقدّيس يوحنّا الدمشقي (+749)، في عظته الأولى والثانية على الانتقال، يوضح لماذا ماتت مريم العذراء، ولماذا انتقلت بعد موتها الى السماء بجسدها ونفسها. يقول: "لماذا الانتقال؟ لقد كان من الواجب أن يكابد أسر المهاوي الأرضيّة هذا المقرّ اللائق بالله، الينبوع الذي لم تحفره يد البشر، حيث تتفجّر المياه التي تطهّر من الخطايا، الأرض غير المحروقة التي تنتج الخبز السماوي، الكرمة التي أعطت بدون أن تروى خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار العذبة. ولكن، كما أنّ الجسد المقدّس النقيّ الذي اتّخذه الكلمة الإلهيّة منها، قام من القبر في اليوم الثالث، هكذا كان يجب أن تؤخذ هي من القبر وأن تجتمع الأمّ بابنها. وكما نزل نحوها، هكذا يجب أن تُرفَع هي عينها، وهي موضوع محبّته، حتى "القبّة الأسمى والأكمل" الى "السماء عينها" (عب 9: 11- 24).
"لقد كان يجب أن تصون جسدها من الفساد حتى بعد وفاتها تلك التي لم تثلم بكارتها في الولادة.
"كان يجب أن تعيش في القباب الإلهيّة تلك التي حملت خالقها في حشاها طفلاً صغيرًا. كما يجب أن تأتي العروس التي اختارها الآب، فتقطن في السماء المقرّ الزوجي...
"اليوم العذراء البريئة من الَدنس، التي لم تخامرها عاطفة أرضيّة، بل تغذّت بالأفكار السماويّة، لم تعد الى التراب، وبما أنّها بالحقيقة سماء حيّة، أقامت في الأخبية السماويّة، فهل يخطىء إذن من يدعوها "سماء"؟ إلاّ إذا قلنا، ولعلّه بعدل وصواب، إنّها تفوق السماوات عينها بامتيازات لا مثيل لها، لأنّ من بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، المنظور وغير المنظور (كو 1: 16)، الذي لا مقرّ له، لأنّه هو عينه مقرّ كلّ الكائنات -لأنّ المقرّ في تحديده يحوي ما فيه- قد جعل نفسه فيها طفلاً صغيرًا، وجعل منها مقرّ ألوهيّته الفسيح الذي يملأ كلّ شيء، وحيدًا ولا حدّ له، قد تجمّع فيها كلُّه بدون أن يتصاغر، وهو مستقرّ بكامله خارجًا، لأنّه هو مقرّ ذاته غير المحدود.
"اليوم كنز الحياة، لجّة النعمة، تدخل في ظلال موت يحمل الحياة، تتقدّم منه بدون خوف، تلك التي ولدت مبيده، هذا إذا جاز أن نسمّي موتًا رحيلها المفعم قداسة وحياة.
"كيف تقع في سلطان الموت من كانت للجميع ينبوعًا للحياة الحقيقية؟ غير أنّها تخضع للشريعة التي وضعها ابنها عينه، وكابنة لآدم القديم تفي الدين الوالديّ، لأنّ ولدها عينه، الذي هو الحياة في ذاته، لم يرفض ذلك. ولكن بصفتها والدة الإله الحيّ، فمن العدل أن تُنقَل اليه، لأنّه إذ قال الله: لئلاّ يمدّ الإنسان (المخلوق الأوّل) يده فيقطف من شجرة الحياة ويأكل فيحيا الى الأبد... (تك 3: 22)، كيف لا تعيش مدى الأبد تلك التي قبلت الحياة عينها بدون بداية ولا نهاية؟".
والكنيسة الأرثوذكسيّة، انسجامًا مع تعاليم الآباء، تؤمن أيضًا بانتقال مريم العذراء الى السماء بجسدها ونفسها، ولكن دون أن تفرض هذا الأمر على ضمير المؤمنين كعقيدة إيمانية، "لأنّها تفتقر الى إثبات، ولم يرد في الإعلان الإلهي أو الكتاب المقدّس أيّ إشارة تؤكّدها"، حسب قول أحد المؤلّفين الأرثوذكسيّين، الذي يضيف موضحًا أسباب انتشار هذا الاعتقاد في عبادة الكنيسة: "وفي هذه العبادة رجاء للكنيسة بالاستعادة الآتية (Apokatastase)، أي عودة الخليقة كلّها، في اليوم الأخير، الى وضعها الفردوسي، بالتألّه، لأنّ العذراء، "بانتقالها الى الحياة"، هي "أوّل كائن بشري يتألّه، كما يقول بول إفدوكيموف، وهي الأولى والسبّاقة، لأنّها ولدت الطريق ووضعت نفسها في الاتّجاه الصحيح، كأنّها "عمود من نار يقود المؤمنين الى أورشليم الجديدة" (فلاديمير لوسكي). لذلك "يلخِّص اسم والدة الإله كلّ تاريخ التدبير الإلهي في العالم"، كما يقول القدّيس يوحنّا الدمشقي (في الإيمان الأرثوذكسي 3: 12)... وفي المجال نفسه يقول اللاّهوتي الأرثوذكسي اليوناني المعاصر بنايوتيس نيللاس: "شركة سريّة تربط جسد مريم بجسد المسيح. وكما أنّ جسد المسيح هو في الحقيقة جسد أمّه، هكذا جسد مريم هو أيضًا جسد ابنها المتألّه. مريم هي أوّل كائن بشري يتّحد بطريقة صحيحة وحقيقية بالمسيح. لقد لبست حقًّا المسيح. لهذا السبب لم يبق جسدها في فساد الموت، بل رفعه المسيح الى السماء كعربون لصعود جميع القدّيسين بأجسادهم الى السماء".


ج) انتقال مريم العذراء في الصلوات الليترجيّة


هذا الإيمان بانتقاله مريم العذراء قد عبّرت عنه الكنيسة في صلواتها الليترجيّة. نقتطف بعضًا من هذه الصلوات من رتبة عيد رقاد السيّدة في الطقس البيبزنطي:
"أيّتها البتول، لقد أوليتِ الطبيعة جوائز الغلبة إذ ولدت الإله، ولكنّك خضعتِ لنواميس الطبيعة مماثلة ابنكِ وخالقكِ، ومن ثمّ متِّ لتنهضي معه الى الأبد".
"إنّ الملك إله الكلّ قد منحكِ ما يفوق الطبيعة، لأنّه كما صانكِ في الولادة عذراء، كذلك صان جسدكِ في الرمس بغير فساد، ومجّدكِ معه بانتقالكِ الإلهيّ، وأولاكِ شرفًا شأن الابن مع أمّه".
"أمّا في ميلادكِ، يا والدة الإله، فحبل بغير زرع. وأمّا في رقادك فموت بغير فساد. إنّ في ذلك أعجوبة بعد أعجوبة. إذ كيف العادمة الزواج تغذّي ابنًا وتلبث طاهرة، أم كيف أمّ الإله تُشَمُّ منها رائحة ثوب الممات؟ فلذلك نرنّم لك مع الملاك قائلين: السلام عليك يا ممتلئة نعمة"
"أيتّها النقيّة، إنّ المظالّ السماويّة الإلهيّة قد تقبّلتك كما يليق، بما أنّك سماء حيّة ومنزّهة عن كل وصمة".


د) أبعاد انتقال مريم العذراء الى السماء ومعانيه


ما آمنت به الكنيسة منذ القرون الأولى وعبرّت عنه بطرق متنوّعة في الصلوات الليترجيّة ومواعظ الآباء، وتحديد العقيدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في موضوع انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى المجد السماوي، هو إعلان للعظائم التي صنعها الله في مريم العذراء، بحسب قولها: "ها منذ الآن تغبّطني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدّوس، ورحمته الى جيل وجيل للّذين يتّقونه" (لو 1: 48- 50). إنّ عظائم الله قد رافقت مريم العذراء طوال حياتها، وبما أنّ الله هو إله الحياة التي لا نهاية لها، تؤمن الكنيسة أنّ ما صنعه الله من عظائم لا يتوقّف عند حدود هذه الحياة بل يمتدّ الى ما بعد الموت. ويستطيع كلّ مؤمن أن يقرأ في مسيرة حياة مريم العذراء مسيرة إيمانه، وفي مصير مريم العذراء بعد الموت مصير كيانه ومصير شخصه في نهاية الزمن.
الروح القدس أحيا جسد العذراء
يقول بولس الرسول: "إذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11).
انتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها. فالروح القدس الذي حلّ عليها وأحيا جسدها لتصير أمًّا لابن الله هو نفسه يكمّل عمله فيها ويحيي جسدها المائت وينقله الى المجد السماوي. الروح القدس هو قدرة الله المحيية، وهذه القدرة لا يوقفها شيء: إنّها حركة دائمة، وديناميّتها تفوق ما يستطيع عقلنا البشري تصوّره. بهذه القدرة كان يسوع يشفي المرضى ويخرج الشياطين ويقيم الموتى (راجع لو 4: 18- 19؛ مر 12: 18- 28). وبهذه القدرة قام هو نفسه من الموت. وبهذه القدرة سيقيم الأموات في الدينونة العامة. ولأنّ مريم العذراء كانت في جسدها ونفسها مستسلمة استسلامًا تامًّا لعمل الروح القدس، آمن المسيحيّون منذ القرون الأولى أنّها حصلت حالاً بعد موتها على قيامة الجسد التي هي مصير كلّ المؤمنين في نهاية الزمن.

بهاء القيامة
الخلاص في الديانة المسيحيّة ليس إنقاذ الإنسان من الخطايا بقدر ما هو إعادته الى بها الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها.. الديانة المسيحيّة هي ديانة البهاء والمجد، وتلك السمة هي التي تبرّر وجودها وتثّبت صحتّها. فإذا كان لله وجود، وإذا كان الله قد ظهر لنا في شخص ابنه وكلمته وصورة مجده يسوع المسيح، فلا بدّ من أن يكون الله إله المجد والبهاء. وهذا ما تعبّر عنه الكنيسة في اعتقادها بانتقال مريم العذراء. تقول الكنيسة البيزنطية في إحدى صلوات عيد رقاد السيّدة: "ما أعجب أسرارك أيّتها السيّدة النقيّة، لأنّك ظهرت عرشًا للعليّ، واليوم قد انتقلت من الأرض الى السماء. فمجدك وافر البهاء، ويعكس أشعّة المواهب الإلهيّة" (صلاة المساء الكبرى). إنّ أشعّة المواهب الإلهيّة التي حصلت عليها مريم العذراء تنعكس في حياتها. فهي السيّدة النقيّة لأنّها "ممتلئة نعمة"، وقد "ظهرت عرشًا للعليّ"، لأنّ ابن الله سكن فيها، وتكلّلت تلك المواهب "بانتقالها من الأرض الى السماء"، وظهر فيها مجد الله الوافر البهاء.
لا يمكننا التنكّر للواقع والتغاضي عن الخطيئة في العالم. ولكنّ قيامة المسيح هي أيضًا جزء من هذا الواقع. من قبر المسيح انبعث نور الله، ومع المسيح القائم من بين الأموات دخل مجد الله العالم، ويعمل كالخمير على تجديده من الداخل. تاريخ العالم ليس تاريخ معركة مجهولة المصير بين الحقّ والباطل، بل تاريخ ولادة جديدة. يقول بولس الرسول: "إنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل .. إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضًا، من عبوديّة الفساد الى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا تئنّ حتى الآن وتتمخَّض، وليس هي فقط، بل نحن أيضًا الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضًا نئنّ في أنفسنا منتظرين التبنّي افتداء أجسادنا" (رو 8: 20- 23). نحن من الآن أبناء الله، ولنا باكورة الروح، ولكنَّ ما نحن عليه سيتجلّى على أتمّ وجه في المجد الخالد، فيكون عندئذ للجسد المفتدى، القائم، قسط من السعادة كبير، حسب قول بولس الرسول:" الإنسان الأوّل من الأرض، من التراب، والإنسان الثاني من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الترابيّون، وعلى مثال السماوي يكون السماويّون، وكما لبسنا صورة الترابي نلبس أيضًا صورة السماوي" (1 كور 15: 47- 49). في وسط عالمنا لبس المسيح السماوي جسدنا الترابي، وبهذا الجسد ارتبط بعالمنا. وقيامته الجسديّة لم تفقده ارتباطه بنا، بل بدخوله مجد الآب، صار ارتباطه بنا أكثر اتّساعًا. ارتفع عن الأرض ليجتذب اليه الجميع (يو 12: 32)، ارتفع الى السماوات ليملأ مجده جميع الأرض، بحسب قول المزمور: "ارتفع اللهمّ على السماوات، وليكن مجدك على جميع الأرض" (مز 57: 12؛ راجع أيضًا أف 4: 8- 10). المسيح لم يتمجّد وحده. "فبعد إذ أميت بالجسد، استردّ الحياة بالروح، وبهذا الروح عينه مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن" (1 بط 3: 19)، أي إنّه نزل الى "الجحيم" مقرّ الأموات حيث كانت نفوس الصدّيقين تنتظر، كفي سجن، مجيئه الخلاصي وصعودها معه الى السماء، وبشّرها بأنّ عمل الفداء قد تحقّق، وتمّ الانتصار على الموت. وفي الموضوع عينه يتكلّم إنجيل متّى عن عامه كسيرين من الأموات مع المسيح: "القبور تفتّحت، وكثيرون من القدّيسين الراقدة أجسادهم فيها قاموا، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدّسة، وتراءوا لكثيرين" (متّى 27: 52- 53).
إنّ ابن الله الذي "له مجد الآب من قبل كون العالم" (يو 17: 5) قد تجسّد في أحشاء مريم العذراء. وبسبب تلك الشركة الروحيّة في المجد والبهاء بين السيّد المسيح وأمّه، آمنت الكنيسة أنّ مريم العذراء، بعد موتها، شاركت ابنها مجد قيامته كما شاركته، في تجسده، مجد ظهوره.

قيامة الأجساد
جسد الإنسان، في نظر الكتاب المقدّس، ليس سجنًا يجب التخلّص منه للوصول الى العالم الحقيقي، عالم الأرواح. نظرة الكتاب المقدّس الى الإنسان لا تقوم على التناقض بين الجسد والروح، بل على التناقض بين الفرد المنعزل المتقون على ذاته والشخص المنفتح في علائقه على الكون وعلى الآخرين وعلى الله. والجسد هو ما يتيح للإنسان الحيّ أن يرتبط بعلائق بنّاءة بالكون والآخرين والله. فالجسد هو إذن الإنسان ذاته من حيث ارتباطه بالعالم الخارجي. لذلك أيضًا رأى معظم آباء الكنيسة، ولا سيّمَا في الشرق، أنّ التجسّد كان لا بدّ منه، ولو لم يخطأ الإنسان، وذلك ليكتمل ارتباط الله بالإنسان وارتباط الإنسان بالله، ونعمة الله التي تعمل في الإنسان تعمل فيه حيث يبني ذاته ويحقّق كيانه العلائقي، فتجعله في روحه وفي جسده أكثر انفتاحًا على الله وعلى الآخرين. للنعمة قوّة تغيير وانفتاح، وعملها هو عمل الحياة الإلهيّة نفسها. كلّ اتصال بالله لا بدّ له من أن يغيّر الإنسان، وإلاّ كان الله مجرّد وهم ابتكره خيال الإنسان ليكوّن لنفسه ما يتعلّق به في هذه الحياة المتقلّبة. إلهنا شخص حيّ يحوّل كلّ من يتّصل به، يدخل أعماق الإنسان ليملأه بحياته الإلهيّة. وقيامة الأجساد هي امتلاء الإنسان من تلك الحياة الإلهية في كل أبعاد كيانه وفي كل ارتباطاته بالله وبالكون وبالآخرين.
إيمان الكنيسة بانتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها الى السماء هو اعتراف بأنّ اتّحادها الصميم بالله بجسدها ونفسها، هذا الاتحاد الذي تحقّق لها بتجسّد ابن الله في أحشائها، كما تحقّق لها أيضًا بأمانتها لمحبّة الله واستسلامها لعلم الله فيها طوال حياتها، هذا الاتّحاد يستمرّ بعد موتها باشتراكها في مجد القيامة. فكما تمجّد ابنها وصار مرتبطًا بدخوله مجد الله بالعالم كلّه، هكذا أيضًا تمجّدت مريم العذراء وصارت مرتبطة بالعالم كلّه. وما سيحدث لجميع المؤمنين في القيامة العامة، أي ارتباطهم الكامل الممجّد بالعالم وبالله، قد حدث لمريم العذراء كما حدث لابنها يسوع المسيح لدى قيامته من بين الأموات.
ثمّ إنّنا في انتقال مريم العذراء الى المجد السماوي نقرأ عمل الروح القدس في الإنسان. وكل مؤمن يعرف أنّ مسيرة حياته هي مسيرة عمل الروح القدس فيه. ومريم هي في الكنيسة رمز عمل الله في كل مؤمن.

العَذرَاء عَقيدَة الكنِيسة
العَذرَاء عَقيدَة الكنِيسة
صلوا من أجل الخدمة فى
منتدى أم السمائيين والأرضيين
ومن أجل ضعفى أنا الخاطى


العَذرَاء عَقيدَة الكنِيسة
العَذرَاء عَقيدَة الكنِيسة
العَذرَاء عَقيدَة الكنِيسة





hguQ`vQhx td uQrd]Qm hg;kAdsm







آخر تعديل ملاك حمايه جرجس يوم 08-12-2013 في 09:25 PM.
رد مع اقتباس
 



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Loading...


Powered by vBulletin® Version 3.8.11 Beta 4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات ام السمائيين و الارضيين