منتدى ام السمائيين و الارضيين - عرض مشاركة واحدة - الاصحاح 5
الموضوع: الاصحاح 5
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-04-2012, 04:12 AM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
 
الصورة الرمزية بنت العدرا
 

 

 
Angry باقى تفسير الأصحاح الخامس من انجيل معلمنا مارمتى البشير




باقى تفسير الأصحاح الخامس
من انجيل معلمنا مارمتى الأنجيلى البشير
والتلميذ الطـــــاهـــر

4. تكميل الناموس


إن كان المسيّا الملك يطالبنا أن نعلن النور الإلهي الساكن فينا خلال حياتنا العمليّة، فتصبح حياتنا كسراجٍ على منارة يضيء لكل من في البيت، ويتمجّد أبونا السماوي أمام الجميع،
فما هي الوصايا المسيحانيّة التي نلتزم بها في حياتنا؟
هل هي وصايا غير الشريعة الموسويّة؟
وهل تتعارض معها؟

يجيب السيّد مؤكدًا: "لا تظنّوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" [17].

لقد ظنّ اليهود خاصة قادتهم أنهم حفظة الناموس والحارسون له، مع أنهم كانوا ينقضونه بأعمالهم المخالفة له،
وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:

[ مع أنهم لم يكمِّلوا الناموس، إلا أنهم كانوا يتطلّعون إليه بضمير حيّ عظيم. وبينما كانوا يفسخونه كل يوم بأعمالهم، لكنهم يحافظون على حروفه لتبقى كما هي بلا تغيير، ولا يضيف عليه أحد شيئًا. لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو أردأ، إذ اعتادوا أن يتركوا التكريم اللائق بالوالدين جانبًا بإضافات من عندهم. ]

أمّا السيّد المسيح فقد جاء ليكمّل الناموس والأنبياء بطرق متنوّعة، منها:
أولا: تحقّقت النبوّات في شخص المسيّا،

وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[ لقد أكمل الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: "لكي يتم ما قيل بالنبي"
(مت 1: 22-23)،
وذلك عندما وُلد، وعندما ترنم له الأطفال بالتسبحة العجيبة، وعندما ركب الأتان
(مت 21: 5-16)،
وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. لقد حقّق هذه الأمور التي ما كان يمكن تحقيقها لو لميأتِ.]


ثانيًا: أكمل السيّد الناموس بخضوعه لوصايا دون أن يكسر وصيّة واحدة. يقول ليوحنا المعمدان: "لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل له كل برّ" (مت 3: 15)، ويقول لليهود: "من منكم يبكّتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)، كما يقول لتلاميذه: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30). هذا وقد شهد عنه النبي، قائلاً: "إنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش"
(إش 53: 9).


ثالثًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم
أن السيّد المسيح لم يكمّل الناموس في نفسه فحسب، وإنما يكمّله أيضًا فينا، قائلاً:
[ هذا هو العجب ليس أنه هو حقّق الناموس، بل وهبنا نحن أيضًا أن نكون مثله، الأمر الذي أعلنه بولس بقوله: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4)،
كما قال: "دان الخطيّة في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد" (رو 8: 3-4)
وأيضًا: أفنُبطل الناموس بالإيمان؟!
حاشا! بل نثبِّت الناموس" (رو 3: 31).
فإنه مادام الناموس كان عاملاً لكي يبرّر الإنسان، لكنّه عجز عن تحقيق ذلك. جاء (المسيح) ودخل بالإنسان إلى طريق البرّ بالإيمان مثبتًا غاية الناموس. ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول: "ما جئت لأنقض بل لأكمل". ]



رابعًا: أكمل أيضًا السيّد الناموس بتكميل نصوصه، بالدخول إلى أعماقه. ففي القديم أمر الناموس بعدم القتل، فجاء السيّد ليؤكّد الوصيّة لا بمنع القتل فحسب، وإنما بمنع الغضب باطلاً، أي نزع الجذر، فتبقى الوصيّة في أكثر أمان، إنه بهذا لم ينقضها، بل قدّمها في أكثر حيويّة وقوّة. يقول القدّيس يوحنا كاسيان:


[ تأمرنا كلمة الإنجيل باستئصال جذور سقطاتنا، وليس نزع ثمارها، فعند إزالة جميع الدوافع بلا شك لن تقوم من جديد. ]




يؤكّد السيّد عدم نقضه للناموس بقوله: "فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" [18].
ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذه العبارة، قائلاً: [ إن كانت الإضافة كاملة فبالأولى تكون البداءة كاملة، لذلك يفهم قوله: "لا يزول حرف (i) واحد أو نقطة واحدة من الناموس" على أنه تعبير عن كمال الناموس. لقد أشار بحرف صغير، لأن حرف (i) أصغر الحروف يتكون من خط صغير، ثم أشار إلى النقطة التي توضع على الحرف، مظهرًا بذلك أن لأصغر الأجزاء في الناموس قيمة. ]
يؤكّد السيّد قدسيّة الناموس حتى في أصغر حروفه أو نقطة، أي في أصغر وصاياه، معلنًا التزامنا بتكميله في حياتنا العمليّة كما في التعليم. يقول: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلَّم فهذا دُعي عظيمًا في ملكوت السماوات. فإني الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات" [19-20].
لقد ظنّ الفرّيسيّون أنهم يحفظون الناموس خلال غيرتهم بالتعليم، ولم يدروا أنهم ينقضونه بحياتهم الشرّيرة، فالتعليم بغير عمل يُحسب كنقضٍ للناموس، ولا يكون للتعليم فاعليته، وأيضًا العمل بغير الشهادة أمام الآخرين يقلّل المكافأة.
* كما أن التعليم بدون عمل يدين المعلّم، كذلك العمل دون مساندة الآخرين يقلّل من المكافأة.
* من لا يقدر أن يُعلّم نفسه ويحاول إصلاح الآخرين يسخر به الكثيرون، أو بالأحرى مثل هذا لا يكون له أي قوّة للتعليم نهائيًا، لأن أعماله تجعل كلماته ضدًا له.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

إذ دخل السيّد بالناموس إلى الكمال، لهذا يلتزم أبناء الملكوت أن يرتفعوا إلى حياة أكمل ممّا للكتبة والفرّيسيّين. يقدّم لنا الآباء تفسيرًا لذلك:
* برّ الفرّيسيّين هو عدم القتل، وبرّ المُعَدّين لملكوت السماوات هو عدم الغضب باطلاً. لذلك فالوصيّة الصغرى هي أن لا تقتل، ومن ينقضها يُدعى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل بها فليس من الضروري أن يكون عظيمًا، بل يرتفع إلى درجة أسمى من الأولى، ولكنه يصير كاملاً إن كان لا يغضب باطلاً، وبالتالي سوف لا يكون قاتلاً.
القدّيس أغسطينوس
* حيث إن المكافأة هنا أعظم والقوّة الممنوحة بالروح أغزر، لذا يجب أن تكون فضائلنا أيضًا أعظم. فإنه لم يعدنا هنا بأرض تفيض لبنًا وعسلاً، ولا براحة طول العمر، ولا كثرة الأطفال، ولا (ببركة) الحِنطة والخمر والغنم والقطعان، إنّما صارت لنا السماء والسماويّات والتبنّي والأخوة للابن الوحيد وشركة الميراث معه، وأن نتمجّد معه ونملك معه، وغير دلك من الجزاءات غير المحصيّة. أمّا بخصوص تمتّعنا بعونٍ أعظم، فاسمع ما يقوله بولس: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيّة والموت" (رو 8: 1-2).
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

بين التطويبات وتكميل الناموس

قبل أن ندخل في الحديث عن تكميل الناموس،
نودّ أن نشير إلى ما قاله القدّيس يوحنا الذهبي الفم من وجود ارتباط قوي بين التطويبات الواردة في مقدّمة العظة وما جاء هنا. فالتطويبات قدّمت لنا الجانب الإيجابي للحياة الفاضلة في المسيح يسوع ربّنا ومكافآتها، أمّا هنا فيقدّم لنا السيّد الجانب السلبي بالامتناع عن الشرّ، لا في التصرّفات الظاهرة فحسب، وإنما باقتلاعه من القلب في الداخل، مهدّدًا بالجزاءات.

فالمسكنة بالروح إنّما تطابق عدم الغضب، لأن المسكين بالروح أو متواضع القلب لا يجد الغضب فيه موضعًا. ونقاوة القلب تقابل عدم النظر إلى امرأة بقصد الشهوة، وعدم وضع الكنز على الأرض، فإن القلب النقي الطاهر لا يشتهي الجسديّات من زنا ومحبّة مال. صُنع الرحمة، والحزن الروحي، واحتمال التعيير والطرد، هذه جميعها تقابل الدخول من الباب الضيق، حيث يشتهي الإنسان أن يحتمل آلامًا من أجل المسيح، فيمتلئ قلبه رحمة، ويتألّم لآلام الآخرين، ويقبل إهاناتهم وشرهم، مقدّمًا الخير عِوض شرّهم. الجوع والعطش إلى البرّ يقابله الوصيّة الإلهيّة، بأن تفعل ما يريد الناس أن يفعلوا بنا، فالنفس التي تتوق إلى السيّد المسيح لا تقدر إلا أن تقدّم السيّد المسيح للآخرين، معلنًا في تصرفاتهم الظاهرة كما في أحاسيسهم الداخليّة. صنع السلام يقابل ترك القربان، حيث لا يقدر إنسان أن يلتقي مع الله مقدّمًا القرابين المقدّسة بغير تمتّعه بالمصالحة مع الآخرين.


5 . القتل

بعدما أكّد السيّد عدم نقضه للناموس بل تكميله، حوّل هذا الحديث العالم إلى التطبيق في الوصايا الناموسيّة، موضّحًا كيف يدخل بها إلى الكمال، مبتدئًا بوصيّة عدم القتل، إذ يقول: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم" [21-22].
* من يعلّمنا عن عدم الغضب لا ينقض الوصيّة الخاصة بعدم القتل، بل بالأحرى يكمّلها، إذ في عدم الغضب نتنقّى، من الداخل في قلوبنا، ومن الخارج أيضًا بعدم القتل.
القدّيس أغسطينوس

* القول "اقتل" يضاد الوصيّة "لا تقتل"، أمّا أن المسيح لا يسمح بالغضب، فبهذا يثبت فكر الناموس بصورة أكثر كمالاً، فإن من يطلب تجنّب القتل لا يوقفه مثل من يستبعد حتى الغضب، فإن الأخير يبعد بالأكثر عن الجريمة.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
ماذا يقصد السيّد بقوله "باطلاً"؟
إنه يريدنا ألا نخسر إخوتنا بسبب أمور زمنيّة تافهة وباطلة، مهما بدت ذات قيمة. أمّا إن كان من أجل أبديّتهم، فيليق بالأب أن يغضب على ابنه، والمعلّم على تلميذه، ليس غضب الانتقام، بل غضب التأديب النابع عن الحب. فإنه لا يقدر أحد أن يُعلّم الآخرين بغضب الكراهيّة، فالحق لا يُعلَن بالباطل، ولا يفقد الإنسان نفسه فيما يظن أنه يُصلِح الآخرين.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[ لا تقف في جانب نفسك في المعركة، ولا تنتقم لذاتك، فإن رأيت إنسانًا يرتكب خطأ قاتلاً ابسط يدك لتعينه. ]
إذ يثور الإنسان بالغضب لأن أخاه ارتكب شرورًا ضدّه فلينظر إلى أخيه أنه يقتل نفسه ويهلكها، فيسنده باللطف والحنو حتى يعينه للخروج من شروره لا أن يطلب ما لذاته.
* ليس شيء أكثر خطورة من الحنق، ولا أقسى من الغضب!
* يوجد سُكر بالغضب أكثر خطورة من السُكر بالخمر!
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
ينتقل بنا السيّد من الغضب كانفعال داخلي خفي إلى الغضب الذي يصاحبه تعبير خارجي عنه بكلمة لا تحمل معنى قبيحًا، وإنما مجرّد تحقير، إذ يقول: "ومن قال لأخيه رقّا، يكون مستوجب المجمع" [22].
يقول القدّيس أغسطينوس
أنه سأل رجلاً عبرانيًا عن كلمة "رقا Raca" فأجابه أنها لا تعني سوى مجرّد تعبير عن انفعال الغضب يصعب ترجمته إلى لغة أخرى.
ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم
أنها تعبير سرياني كان مستخدمًا في الحديث مع الخدم والأشخاص الذين من الطبقات الدنيا، وذلك بدلاً من قوله "أنت" في هذا التعبير نوع من عدم الاحترام للشخص الموجّه إليه الحديث.
إذ يدخل الإنسان إلى مرحلة أردأ بالإعلان عن غضبه بكلمة تدل عليه يصير مستحقًا المجمع وليس فقط الحكم. ففي الحكم يكون الاتهام مشكوكًا فيه، فيبحث القاضي في الاتهام ليتأكّد من صحّته، أمّا المجمع فيحمل نوعًا من التأكّد أن الاتهام ثابتًا على المتهم، فيحدّد القضاة الجزاء الذي يسقط تحته. ففي النظام اليهودي كانت تقام محاكم في القرى والمدن يتراوح أعضاؤها ما بين 3 و23 شيخًا، يقف أمامها المتّهمون بجريمة معيّنة. أمّا المجمع فهو أعلى من هذه المحاكم إذ هو أعلى هيئة قضائيّة في ذلك الحين ويسمى "مجمع السنهدرين". وواضح من كلمات السيّد أنه يقتبس التشبيه ليبرز خطورة الغضب المصحوب بكلمة، فلا يقف الإنسان أمام محكمة صغرى يمكن نقض حكمها، وإنما أمام أكبر هيئة قضائيّة للبت في أمره!
أما المرحلة الثالثة ففيها الغضوب، وقد التهب فيه الغضب، لا ليعبّر عنه بكلمة بلا معنى أو مجرّد تعبير عن الاستياء، إنّما ينطق بكلمات جارحة، فإنه يستحق عقابًا أعظم: "ومن قال يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنّم" [22].
كلمة "جهنّم" تتركّب من كلمتين عبريّتين: "جه، هنوم" أي "داخل هنوم". هنوم هو وادي فيه كانت تُلقى مخلّفات الذبائح بميازيب خاصة، فكانت دائمًا مملوءة دودًا من مخلّفات الحيوانات، وكانت النار مشتعلّة فيها بلا انقطاع، لهذا جاءت رمزًا لعقاب إبليس وجنوده الأبدي، إذ قيل "دودها لا يموت ونارها لا تُطفأ". في هذا الوادي أجاز أحاز ومنسي أولادهما بالنار (2 مل 16: 3، 2 أي 28: 3؛ 33: 6).
إن كانت جهنّم، موضع العقاب الأبدي لإبليس الذي صار بطبعه قتالاً، فإن من يترك نفسه لروح الغضب في استسلام فلا يقف عند الانفعال الداخلي ولا التعبير عنه بكلمة دون معنى، إنّما ينطلق إلى كلمات جارحة، هذا يسلّمه الله لسيّده فيبقى معه في جهنّم، يتركه لمشتهى قلبه الذي يستسلم للغضب!
إن كان الغضب يحمل هذه الخطورة،
فكيف نستطيع أن نضبط لساننا عن كلمات الغضب؟
يجيب القدّيس أغسطينوس:
[ إننا نرتعب... لأنه مَنْ من الناس لا يخاف من قول الحق: "من قال لأخيه يا أحمق يكون مستحق نار جهنّم"، وفي نفس الوقت يقول الكتاب المقدّس: "اللسان لا يستطيع أحد من الناس أن يذله" (يع 3: 8). يستطيع الإنسان ترويض الوحوش المفترسة، أمّا لسانه فلا يقدر أن يلجمه... يستطيع أن يهذب كل ما يخاف منه، وكل ما ينبغي أن يخشاه، لكنّه لا يقدر أن يهذّب نفسه التي لا يخافها... إذن لنلجأ إلى الله الذي يستطيع أن يلجمه!... لنبحث بدورنا عن الله لكي يروّضنا... أنتم تروِّضون الأسد الذي لم تخلقوه، أفلا يستطيع خالقكم أن يروّضكم؟!...
من أين أتيتم بهذه القوّة التي بها تُخضِعون الحيوانات المفترسة؟!
هل تستطيع صورة الله (الإنسان) أن تروض الأسد المفترس، ولا يستطيع الله ترويض صورته؟ ]
أخيرًا يختم السيّد حديثه عن عدم الغضب بمصالحة الإخوة قبل تقديم ذبيحة حب له، إذ يقول: "فإن قدّمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدّم قربانك. كن مراضيًا لخصمك سريعًا مادمت معه في الطريق، لئلا يسلّمك الخصم إلى القاضي، ويسلّمك القاضي إلى الشرّطي، فتلقى في السجن. الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير" [23-26].
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة: [ يا للصلاح! يا للحب المتزايد نحو الإنسان! فإن الله لا يهتم بالكرامة الخاصة به من أجل محبتنا لأخينا!... هذه هي إرادته أن يعطي المحبّة تقديرًا عظيمًا حاسبًا إيّاهم أعظم ذبيحة وبدونها لا تُقبل ذبيحة!... فإن كنت تقدّم بذهنك صلاة، فمن الأفضل أن تترك صلاتك وتصطلح مع أخيك وعندئذ تقدّم صلاتك. ]
يقول القدّيس أغسطينوس:
[ إن كنت في عداوة فاصطلح. إن جاءتك الفرصة للوصول إلى مصالحة، لا تترك نفسك في نزاع. ]
إن كان الله يفرح بنا ككنيسة واحدة، عروس مقدّسة، فإنه يتقبّل تقدمة كل عضو خلال حياة الشركة القائمة على المحبّة... وبدون المحبّة لا يمكن أن تقوم الشركة ولا تُقبل تقدمة.
ما أجمل العبارة التي قالها القدّيس جيروم التي يعبّر بها عن الكنيسة أو حياة الشركة:
[ لا أعرف سلامًا بغير حب، ولا شركة بدون سلام. ]
يُعلّق القدّيس يوحنا كاسيان على قول الرسول: "اغضبوا ولا تخطئوا، لا تغرّب الشمس على غيظكم" (أف 4: 26)،
قائلاً: [ كيف يمكننا الاعتقاد بأن الرب لا يسمح باستبقاء الغضب، ولو إلى لحظة في حين أنه لا يأذن لنا بتقديم قرابين صلواتنا الروحيّة إن تذكرنا ثمة أحدًا يشعر بمرارة من نحونا... ويوصينا الرسول، قائلاً: "صلّوا بلا انقطاع"
(1 تس 5: 17)،
وأيضًا: "في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2: 8).
إذن، إمّا أننا لا نصلّي على الإطلاق محتفظين بسمّ الغضب في قلوبنا، فنكون مذنبين ضدّ الوصيّة الرسوليّة أو الإنجيليّة التي تأمرنا بالصلاة في كل حين بلا انقطاع، أو نتجاسر ونقدّم صلواتنا خادعين أنفسنا، غير آبهين بوصيّته الإلهيّة
(مت 5: 23-24)،
وعندئذ يليق بنا أن ندرك أننا لا نقدّم صلوات لله، بل سلوكًا عنيدًا بروحٍ متمردٍ. ]


ترك الرداء

يقدّم السيّد مثلاً آخر لمقابلة الشرّ بالخير، قائلاً: "ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا" [40]. إن كان إنسان قد أخذ منك الثوب ودخل معك في خصومة، وأراد أن يسحبك إلى المحكمة ويسبّب لك متاعب، فاشتري راحتك وسلامك بترك الرداء أيضًا. بهذا تربح وقتك وقلبك وفكرك كما تربح المخاصم وتقتنيه بالحب والعطاء.
يقول القدّيس أغسطينوس:
[ ليتنا نحتقر كل تلك الأشياء التي نحسبها ملكًا لنا وبسببها يخاصمنا إخوتنا... ليتنا ننقل ملكيتها لهم. ]
الثوب هو القميص الذي يلبسه الإنسان تحت ردائه أو عباءته، عادة يُصنع من القطن، أمّا الرداء فهو العباءة الثقيلة وهي أثمن من الثوب، يرتديها الإنسان في النهار ويستدفئ بها في الليل. فإن كان ثوبك الرخيص قد اغتصب بغير إرادتك، فإنك تحمل حرّية الحب لتقدّم معه ما هو أثمن منه. المسيحي في اتّساع قلبه وحرّية نفسه الداخليّة لا يئن بسبب حقوقه المغتصبة، وإنما يقدّم ما لديه للآخرين بفرح. هذا هو كمال الحرّية الداخليّة!
يأمر السيّد الإنسان الغضوب أن يسرع بمصالحة خصمه مادام معه في الطريق، لئلا يسلّمه الخصم إلى القاضي، ويسلّمه القاضي إلى الشرطي، فيلقى في السجن ولا يخرج من هناك حتى يوفي الفلس الأخير. ما هو هذا الخصم إلا "الوصيّة الإلهيّة"، فإنها تدخل كطرفٍ في الخصومة مع الإنسان الغضوب. تقف "وصيّة الحب" كخصم حقيقي له، تدينه في يوم الرب أمام الديان، أي السيّد المسيح، (يو 5: 22)،
الذي يسلّمه إلى الملائكة كشرطي ليلقيه في "الظلمة الخارجيّة" (مت 8: 12)،
ولا يخرج من هناك حيث لا يقدر أن يفي العدل الإلهي حقّه.
يقول القدّيس أغسطينوس:
[ أي شيء سيكون خصمًا لمحبي الخطيّة مثل وصايا الله، أي شريعته المدوّنة في الكتاب المقدّس، ذلك الكتاب الذي وُهب لنا ليكون معنا في الطريق، أي في الحياة الحاضرة، لكي ننفذ تعاليمه سريعًا ولا نخالفها. حتى لا يسلّمنا إلى القاضي؟! فعلينا أن نخضع له سريعًا، لأنه من يَعلَم متى نرحل من هذه الحياة؟ من يستطيع أن يخضع للكتاب المقدّس غير الذي يقرأه ويستمع له بتقوى، خاضعًا له كما لو كان لسلطانٍ عظيمٍ، غير متضايق ممّا يجده معارضًا لخطاياه، بل بالأحرى يحبّه لأنه يبكِّته عليها، ويفرح به لأنه يشفي أمراضه، ويصلّي ليفهم ما بدا له غامضًا أو غير مقبول، عالمًا أنه ينبغي تقديم كل وقار لسلطان كهذا. ]



6. الزنا
"قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن،
وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها
فقد زنى بها في قلبه" [27-28].
يقول القدّيس أغسطينوس:
[ إن الخطيّة تكمل على ثلاث مراحل: إثارتها، التلذّذ بها، ثم إرضائها. ]
فإن كان الناموس قد حرّم إرضاء الخطيّة أي تنفيذها، فإن السيّد المسيح جاء ليقتلع جذورها بمنع الخطيّة من المرحلة الأولى. إن كانت الخطيّة تبدأ بالإثارة خلال النظرة الشرّيرة، ليتقبّلها الفكر ويتلذذ بها ثم تدخل إلى الإرضاء بالتنفيذ العملي، فإنه يسهل على المؤمن أن يواجهها في مرحلتها الأولى قبل أن يكون لها موضع في الذهن أو لذّة خلال الممارسة للخطأ.

*
يجب أن نلاحظ أنه لم يقل "من اشتهى امرأة"، بل "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" أي ينظر إليها بهذه النيّة، فهذه النظرة ليست إثارة للذّة الجسديّة بل تنفيذًا لها، لأنه بالرغم من ضبطها فستتم لو سمحت الظروف بذلك.
القدّيس أغسطينوس

*
لم يخلق الله لك عينيّن لكي تدخل بهما إلى الزنا، وإنما لكي برؤيتك خلائقه تعجب...
* إن رغبت أن تنظر بلذّة فتطلّع إلى زوجتك وحبّها باستمرار، فإن الشريعة لم تمنعك من هذا. أمّا إن كنت محبًا للاستطلاع نحو جمال من هنّ لغيرك، فإنك بهذا تؤذي زوجتك، لأن عينيّك تجولان في كل موضع، وتؤذي من تتطلّع إليها بالاقتراب منها بطريقة دنسة. فإنك وإن كنت لا تمسّها بيديك لكنك تلاطفها بعينيّك فيحسب ذلك زنا... ليست هي التي صوّبت سهمها إليك، وإنما أنت الذي سبّبت لنفسك حرجًا مميتًا بنظرك إليها.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

*
الله دائمًا يقطع جذور الخطايا بطريقة عجيبة، فإذ يقول: "لا تزن" (خر 20: 14)
يقول أيضًا "لا تشته"، لأن الزنا هو ثمرة الشهوة التي هي جذرها الشرّير.
القدّيس إكليمنضس السكندري

إذ يتحدّث السيّد عن الشهوة والنظرة يتطرّق إلى الحديث عن العثرة، قائلاً: "فإن كانت عينك اليُمنى تعثّرك فاقلعها واِلقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك، ولا يُلقي جسدك كلّه في جهنّم، وإن كانت يدك اليُمنى تعثّرك فاقطعها واِلقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقي جسدك كلّه في جهنّم" [29].
* من يتعثّر بعينه اليُمنى يسقط بالتأكيد في ذات الشرّ بعينه اليُسرى أيضًا. إذن لماذا أشار إلى العين اليُمنى كما أضاف إليها اليد؟ إنّما لكي يظهر أنه لا يتحدّث عن الأعضاء بل على من هم أقرباء لنا.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم

* إن كنّا نحتاج إلى شجاعة عظيمة لبتر أحد أعضائنا، لذلك فهو يقصد بالعين شيئًا محبوبًا، فلقد اعتاد الراغب في التعبير عن محبّته لآخر أن يقول: "إنّني أحبّه كعينيّ أو حتى أكثر من عينيّ"، لذلك ربّما قصد الرب من العين شدّة المحبّة...
ليس هناك تفسير للعين اليُمنى أكثر ملاءمة من أن يقصد بها الصديق المحبوب حبًا شديدًا، الذي تصبح علاقته كعلاقة العضو بالجسد. هذا الصديق يكون مشيرًا حكيمًا لصاحبه، كما لو كان عينًا يرى بها الطريق، ويكون مشيرًا مخلصًا في الأمور الإلهيّة، لأنه عين يُمنى. أمّا العين اليُسرى فتُشير إلى صديق يُشير في الأمور الخاصة باحتياجات الجسد، الذي لا يلزم الحديث عنه كعثرة مادامت العين اليُمنى أهم من اليُسرى
(أي أنه إذا أعثرتنا العين اليُمنى نقلعها، فكم تكون اليُسرى إن أعثرتنا).
ويكون المشير عثرة إذا قاد صاحبه إلى هرطقة خطيرة في زيّ التديّن والتعليم.
أما اليد اليُمنى فإنها تُشير إلى الشخص الذي يساعد ويعمل في الأمور الروحيّة. فالتبصُّر في الأمور الروحيّة له مكانه العين اليُمنى، كذلك العمل في الأمور الروحيّة له مكانه اليد اليُمنى، وبالتالي فاليد اليُسرى تعني الأمور الضروريّة لاحتياجات الجسد.
القدّيس أغسطينوس



7. التطليق
"وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق،
أمّا أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلّة الزنا، يجعلها تزني،
ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني" [31-32].
كان الزواج قد انحط تمامًا عند الأمم، فالرومان الذين كانوا قبلاً يقدّسون الزواج فيحترم الرجل أسرته وتقوم المرأة أو الزوجة بدور رئيسي في الأسرة، قد تأثّر باليونان فكريًا، فصار الطلاق شائعًا جدًا. قيل عن امرأة أنها تزوّجت ثماني مرّات في خمس سنوات. أمّا اليونان فقد عرفوا في ذلك الوقت بالفساد حتى كان الرجال يحاولون عزل نساءهم خشية ممارستهم الشرّ، وفي كورنثوس تكرّست ألف كاهنة لبناء هيكل آخر لأفروديت إلهة الحب، فيجمعن المال بطريقة مملوءة خلاعة. أمّا بالنسبة لليهود فقد حملوا تقديسًا للزواج، فكان الطلاق مكروهًا لديهم. يقول الرب: "فاحذروا لروحكم ولا يغدر أحد بامرأة شبابه، لأنه يكره الطلاق قال الرب"
(مل 2: 15-16).
ومن أمثال الربيين: "يفيض المذبح دموعًا عندما يطلق إنسان امرأة شبابه". هكذا كان الطلاق مكروهًا جدًا، لكن الله سمح لهم به من أجل قسوة قلوبهم. وقد اختلفت مدارس التفسير اليهوديّة في تقديم الأسباب التي تبيح الطلاق. فمدرسة شمعي تميل إلى التضييق، فلا تسمح بالطلاق إلا في حالة فقدان العفّة. أمّا مدرسة هليل فكانت متحرّرة للغاية. يمكن للرجل أن يطلق امرأته لأي سبب مهما كان تافهًا مثل افسادها الطعام أو خروجها برأس عارية، بل ويستطيع أن يطلقها بلا سبب إن جذبته إنسانة أخرى.
جاء السيّد المسيح يرتفع بالمؤمنين إلى مستوى النضوج الروحي والمسئولية الجادة فلا يطق الرجل امرأته إلا لعلّة الزنا. ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على كلمات السيّد بخصوص عدم التطليق قائلاً: [ لم تأمر الشريعة الموسويّة بالتطليق، إنّما أمرت من يقوم بتطليق امرأته أن يعطها كتاب طلاق، لأنه في إعطائها كتاب طلاق (تطليق) ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان. فالرب الذي أمر قساة القلوب بإعطاء كتاب تطليق أشار عن عدم رغبته في التطليق ما أمكن. لذلك عندما سُئل الرب نفسه عن هذا الأمر أجاب قائلاً: "إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم"
(مت 19: 8)،
لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في تطليق زوجته إذ يعرف أنها بواسطة كتاب التطليق تستطيع أن تتزوج بآخر، لذلك يهدأ غضبه ولا يطلقها. ولكي يؤكّد رب المجد هذا المبدأ - وهو عدم تطليق الزوجة باستهتار - جعل الاستثناء الوحيد هو علّة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى بثبات من أجل المحبّة الزوجيّة ولأجل العفّة، وقد أكّد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلّقة "زانيًا. ]



8. القسم
"وأيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوْف للرب أقسامك،
وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتّة،
لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه،
ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم.
ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء،
بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا،
وما زاد على ذلك فهو من الشرّير" [33-37].
لم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يمتنع المؤمنون وهم في الطفولة الروحيّة عن القسم، لهذا طالبهم أن لا يحنثوا بل يوفوا للرب أقسامهم. أحيانًا كان يأمرهم أن يقسموا به ليس لأنه يودّ القسم، وإنما علامة تعبّدهم له وحده دون الآلهة الغريبة، بهذا كان يمنعهم من القسم بآلهة الأمم المحيطين به.
في العهد الجديد إذ دخلنا إلى النضوج الروحي يأمرنا السيّد ألا نقسم مطلقًا بل ليكن كلامنا نعم نعم ولا لا. ويعلّل القدّيس يوحنا الذهبي الفم هذا بقوله إن القسم أشبه بالريح بالنسبة لسفينة الغضب، بدونه لا يمكنها أن تبحر في حياة الإنسان. إنه يقول: [ ضع قانونًا على إنسان كثير الانفعال ألاّ يقسم قط فلا تكون هناك حاجة لتعليمه الاتّزان. ]
ويعتبر القدّيس يوحنا الذهبي الفم
أن عدم القسم هو العلامة التي تميّز المسيحي ولغته الخاصة: [ لنتقبّل هذا كختم من السماء، فيُنظر إلينا في كل موضع أننا قطيع الملك. ليتنا نعرف من نحن خلال فمنا ولغتنا. ]



9. مقاومة الشرّ بالخير
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن،
وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ،
بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" [38-39].
في القديم منع الله شعبه من مقاومة الشرّ بشرٍ أعظم سامحًا لهم بذلك من أجل قسوة قلوبهم، أمّا وقد دخلنا العهد الجديد فقد ارتفع بنا إلى مقابلة الشرّ لا بشر مماثل أو أقل أو حتى بالصمت وإنما نقابله بالخير مرتقبًا بنا إلى أعلى درجات الكمال.
يرى القدّيس أغسطينوس أن السيّد المسيح قد دخل بنا إلى درجة الكمال المسيحي كأعلى درجات الحب التي تربط الإنسان بأخيه، إذ يرى العلاقة التي تقوم بين البشر تأخذ ست درجات:
الدرجة الأولى: تظهر في الإنسان البدائي الذي يبدأ بالاعتداء على أخيه.
الدرجة الثانية: فيها يرتفع الإنسان على المستوى السابق، فلا يبدأ بالظلم، لكنّه إذا أصابه شر يقابله بشرٍ أعظم.
الدرجة الثالثة: وهي درجة الشريعة الموسويّة التي ترتفع بالمؤمن عن الدرجتين السابقتين فلا تسمح له بمقاومة الشرّ بشر أعظم، إنّما تسمح له أن يقابل الشرّ بشر مساوٍ. أنها لا تأمر بمقابلة الشرّ بالشرّ، إنّما تمنع أن يرد الإنسان الشرّ بشرٍ أعظم، لكنّه يستطيع أن يواجه الشرّ بشر أقل أو بالصمت أو حتى بالخير إن أمكنه ذلك.
الدرجة الرابعة: مواجهة الشرّ بشرٍ أقل.
الدرجة الخامسة: يقابل الشرّ بالصمت، أي لا يقابله بأي شر، أي عدم مقاومته.
الدرجة السادسة: التي رفعنا إليها السيّد وهي مقابلة الشرّ بالخير، ناظرين إلى الشرّير كمريض يحتاج إلى علاج.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم
على مقاومة الشرّ بالخير، قائلاً: [ لا تُطفأ النار بنارٍ أخرى، وإنما بالماء... ليس ما يصد صانعي الشرّ عن شرّهم مثل مقابلة المضرور ما يصيبه من ضرر برقّة. فإن هذا التصرّف ليس فقط يمنعهم عن الاندفاع أكثر، وإنما يعمل فيهم بالتوبة عما سبق أن ارتكبوه، فإنهم إذ يندهشون بهذا الاحتمال يرتدّون عما هم فيه. هذا يجعلهم يرتبطون بك بالأكثر، فلا يصيروا أصدقاءً لك فحسب، بل وعبيدًا عِوض كونهم مبغضين وأعداء. ]
ماذا يقصد بالخد الأيمن والآخر؟
قدّم لنا السيّد أمثلة لمقابلة الشرّ بالخير
في مقدّمتها إنه إذا لطمنا شخص على خدّنا الأيمن نحوّل له الآخر أيضًا. ولقد أوضح الآباء أن السيّد في تقديمه الوصيّة لم يقصد مفهومها بطريقة حرفيّة، لأن الإنسان لا يُلطم على خدّه الأيمن بل الأيسر اللهم إلا إذ كان الضارب أشولاً. إنّما الخدّ الأيمن يُشير إلى الكرامة الروحيّة أو المجد الروحي، فإن كان إنسان يسيء إلينا ليحطّم كرامتنا الروحيّة فبالحب نقدّم له الخد الأيسر أيضًا، أي الكرامة والأمجاد الزمنيّة والماديّة.
ويحذّرنا الأب يوسف من تنفيذ الوصيّة حرفيًا بينما لا يحمل القلب حبًا حقيقيًا نحو الضارب، خاصة وأن البعض يعملون على إثارة الآخرين ليضربوهم، الأمر الذي يسيء إلى الوصيّة الإلهيّة. ويختم حديثه بقوله:
[ إن كان خدّك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب فليقبل الإنسان الداخلي بتواضع أن يتقبّل الضربة على خدّه الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضرب الإنسان الداخلي. ]

*
كثيرون تعلّموا كيف يقدّمون الخدّ الآخر، ولكنهم لم يتعلّموا كيف يحبّون ضاربهم. المسيح رب المجد، واضع الوصيّة ومنفّذها الأول، عندما لُطم على خدّه بواسطة عبد رئيس الكهنة ردّ قائلاً: "إن كنت قد تكلَّمت رديًا فاشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!"
(يو 18: 23).
فهو لم يقدّم الخدّ الآخر، ومع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وصلب جسده كله.
القدّيس أغسطينوس



الميل الثاني
"ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين،
ومن سألك فاعطه،
ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" [41-42].
تظهر أهمّية هذه الوصيّة من دعوة المسيحيّة بديانة الميل الثاني، حيث يقدّم المؤمن للآخرين أكثر ممّا يطلبون، لكي يربح نفسه ويربحهم بحبّه. سير الميل الثاني علامة قوّة الروح وانفتاح القلب بالحب، فلا يعمل الإنسان ما يطلب منه عن مضض، وإنما يقدّم أكثر ممّا يطلب منه.
كان اليهودي - تحت الحكم الروماني - مهدّدًا في أية لحظة أن يسخره جندي روماني ليذهب حاملاً رسالة معيّنة على مسافة بعيدة أو يقوم بعمل معين، وذلك كما فعل الجند حي سخروا سمعان القيرواني لحمل الصليب. فإن كان تحت العبوديّة القاسية يتقبّل الإنسان الميل المطلوب سيره، فإنه تحت نعمة الحرّية الكاملة يقدّم بكل سرور الميل الثاني دون أن يُطلب منه، إنّما هو علامة حرّيته.
* بالتأكيد إن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصيّة بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصيّة.
القدّيس أغسطينوس
كشف السيّد مفهوم العطاء بقوله "من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه" ولعلّه أراد بذلك أن تكون لنا طبيعة العطاء السخيّة، فإن البعض في عزّة نفس لا يقدر أن يستعطي فيطلب قرضًا، فلا تطلب ردّه منعًا من إحراجه...



10.محبّة الأعداء
"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك،
وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم،
باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم،
وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم،
لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات..." [43-45].
لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحلّ معه" (خر 23: 5).
وقيل أيضًا: "لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه" (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم.
هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم.
لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه.
ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم
أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا:
الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه.
الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي).
الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ.
الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا.
الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلاً يسير معه ميلين.
الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم.
الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب... "أحبّوا أعداءكم".
الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير.
الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه.
* هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم
أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [ جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا. ]
ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" [45].
إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له،
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه. ]
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء:
* لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!
* كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق.
* عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34) .
القدّيس أغسطينوس

* لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء!... فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر.
* يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته... وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم



الكمال
إذ يتحدّث عن درجات الكمال ويبلغ إلى قمّتها، أي حب الجميع حتى الأعداء بلا مقابل، يُعلن السيّد غاية ذلك ألاَ وهو الدخول في الحياة الكاملة والتشبّه بالله نفسه، إذ يقول: "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين.
لأنه إن أحببتم الذين يحبّونكم فأي أجر لكم؟! أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك؟!
وإن سلّمتم على إخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟
أليس العشّارون أيضًا يفعلون هكذا؟!
فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" [45-48].

إن كانت غاية الله فينا أن يرانا أولاده نحمل صورته فينا وننجذب إليه بالحب لنحيا معه في أحضانه الإلهيّة ننعم بأمجاده، فإن غاية حياتنا الروحيّة ولقائنا معه هو أن ننعم بأبوّته لنا ونتأهل لنصير على مثاله فنحسب كاملين كما هو كامل!
* إنه يقول: الذين تشكّلت أساليب فكرهم فصارت مترفّقة ومملوءة حبًا نحو إخوتهم على مثال صلاح أبيهم، هم أبناء له!
القدّيس غريغوريوس النيسي

* إذ لا يمكننا أن نصير كالله في الجوهر، لكنّه بالتقدّم في الفضيلة نتشبّه بالله، حيث يمنحنا الرب هذه النعمة!
البابا أثناسيوس الرسولي
* للمسيح إخوة مشابهون له، يحملون صورة طبيعته الإلهيّة خلال طريق التقدّيس، لأنه هكذا يتشكّل المسيح فينا... الذين يصيرون شركاء الطبيعة الإلهيّة خلال شركة الروح القدس، يحملون ختم شبه المسيح الفائق ويشِع في نفوس القدّيسين الجمال الذي لا يُعبّر عنه.
القدّيس كيرلّس الكبير










التوقيع

آخر تعديل ملاك حمايه جرجس يوم 12-07-2012 في 04:52 PM.
رد مع اقتباس